نعيش جميعنا في هذا العقد من الزمان، وفضاء التواصل الاجتماعي يشع بريقًا، وظلاله قد فتحت رؤوسنا وأضحى بالإمكان لأيِّ متسلل أن يتجوَّلَ فيها. فأنت إذا قمت بتغريد أيِّ شيء يخطر ببالك، فمن المحتمل جدًّا أن تصلَ إلى هاتف فرد آخر مع الوقت وهو يجلس على أريكته في منزله.
ولعلَّ المشكلة الحقيقيَّة ليست التكنولوجيا هنا، بل إنَّها الطبيعة البَشَريَّة. لقد أصبح الناس حريصين على الاهتمام بما يعتقده الآخرون عَنْهم. أوَلَا تتَّفق معي بأنَّنا جميعًا ـ إلَّا من رحم ربك ـ نُحبُّ أنفسنا أكثر من الآخرين، لكنَّنا نهتمُّ بآرائهم أكثر من آرائنا، سواء كانوا أصدقاء أو حتى الغرباء؟
ومع ذلك قد يكون هذا الاتِّجاه طبيعيًّا، لكنَّه يُمكِن أن يدفعَنا نَحْوَ منحنى آخر إذا سمحنا بذلك. فإذا كنَّا منطقيين لحدٍّ ما، فسوف نفهم أنَّ مخاوفنا بشأن ما يعتقده الآخرون مبالغ فيها ونادرًا ما تستحقُّ القلق. لكنَّ الكثير منَّا ينغمس في هذه العادة السيئة لأطول فترة يُمكِن أن نتذكرَها، لذلك نحن بحاجة إلى اتِّخاذ خطوات مدروسة لتغيير أذهاننا.
وبالنظر الآن إلى مُجتمعاتنا الحديثة، سنلاحظ كيف أنَّ تأثير الآخرين على آرائك حَوْلَ العالم يتضاءل مقارنة بتأثيرهم على رأيك في نفْسِك. وهنا تحديدًا، لو نرجع إلى الوراء سنرى في كُلِّ تاريخ البَشَريَّة، اعتمد بقاء البَشَر على العضويَّة في العشائر والقبائل المتماسكة، بل إنَّه قبل الهياكل الحديثة للحضارة، مِثل الشُّرطة ومحال (السوبر ماركت)، كان طردك من قبيلتك يعني الموت المؤكَّد من البرد أو الجوع أو الحيوانات المفترسة. والسؤال هنا: هل هذا مرتبط برفاهيَّة البَشَريَّة مع الوقت؟
وحقيقة ما حثَّني للحديث هنا عن هذا الموضوع، هو ما نلاحظه اليوم من البعض وكيف أنَّ قلقهم بشأن قَبول الآخرين قد تحوَّل إلى خوف مُنهكٍ، وهي حالة نفسيَّة يُمكِن تشخيصها بـ(رهاب اللودوكسافوبيا). حتى لو لَمْ يتحوَّل الأمْرُ إلى مرَضٍ نَفْسي، فإنَّ القلق بشأن آراء الآخرين يُمكِن أن يقلِّلَ من كفاءتك الأساسيَّة في المهام العاديَّة، مِثل اتِّخاذ القرارات!
وهنا أجد أنَّ أحد أسباب خوف بعض الأفراد من آراء الآخرين هو أنَّ التقييمات السلبيَّة، والتي يُمكِن أن تؤدِّيَ إلى الخجل، والشعور بأنَّه لا قِيمة له، أو غير كفؤ. وبالتالي، نظرًا للوزن الذي نضعه على آراء الآخرين، نشعر بهذه الطريقة تجاه أنفسنا. وربَّما الخوف من الإحراج أو الإساءة أمْرٌ منطقي؛ لأنَّ الأبحاث تظهر بوضوح أنَّ الشعور به هو أحد أعراض الاكتئاب والقلق ومحفِّز لهما. وبالفعل سيبذل الناس الكثير من الجهد لتجنُّب الخجل، وهو ما يُمكِن أن يفسِّرَ سلوكيَّات مِثل إشارات الفضيلة على وسائل التواصل الاجتماعي!
ختامًا، قد يتَّفق معي الجميع أنَّ اهتمامنا المفرط بآراء الآخرين منَّا أمْرٌ طبيعي لا يعني أنَّه أمْرٌ لا مفرَّ منه. بل إنَّ الهدف الصحيح ليس التجاهل التام لآراء الآخرين. سيكون ذلك غير طبيعي وخطيرًا، وقد يؤدِّي هذا الاتِّجاه إلى متلازمة الغطرسة أو حتى أن يكُونَ دليلًا على اضطراب الشخصيَّة المعادية للمُجتمع. لكن يُمكِن أن يصبحَ الفرد أفضل حالًا إذا تعلَّم الاهتمام بقدرٍ أقلَّ ممَّا يفعل، وتعدَّى قلقه ذاك وتوقَّف عن الحُكم على الآخرين.


د. يوسف بن علي الملَّا
طبيب ـ مبتكر وكاتب طبي
[email protected]