مع الاعتراف بأنَّ مسـألة سيطرة الأيدي الوافدة على سلاسل الإنتاج في واقعنا في سلطنة عُمان أصبحت تدقُّ ناقوس الخطر في ظلِّ ارتفاع أعداد الباحثين عن عمل، ولأنَّ مسألة وجودها لمَنْ تُعدُّ وقتيَّة أو مقتصرة على شركات القِطاع الحكومي والقِطاع الخاصِّ، واستئثارها بوظائف الإدارة العليا والوظائف الهندسيَّة والفنيَّة والإشرافيَّة، بل تعدَّى ذلك إلى العمل الحُر أو الأنشطة الاقتصاديَّة الأخرى المرتبطة بكُلِّ ما يتعلَّق باحتياجات المواطن اليوميَّة؛ تجاوزت حدود المقبول وأصبحت تُمثِّل تهديدا لأمن المواطن الوظيفي والغذائي والمهني وغيره، وسلوكًا يوميًّا يحمل الكثير من التبعات والمنغِّصات القادمة في ظلِّ معطيات الأزمات والظروف الصعبة، إلَّا أنَّ ما يُدمي القلب ويحزن الخاطر أنَّ هناك من الخبرات والكفاءات العُمانيَّة من تمتلك الخبرة الواسعة والقدرة على التعاطي مع الكثير من المهن التي أصبح لها سُوقها وأهمِّيتها كمِهن منتجة وذات قِيمة مضافة في حياة المواطن اليوميَّة، وبشكلٍ خاصٍّ ما يتعلَّق منها بقِطاع توصيلات الكهرباء والمياه، وقِطاع السيَّارات، وقِطاع التكييف والتبريد ـ ومنها بشكلٍ أخص خدمة صيانة المكيفات ـ حيث تشهد الأخيرة مع ارتفاع درجات الحرارة وفصل الصَّيف نشاطًا كبيرًا وحركة دائبة باتت المنازل تعجُّ فيها بالأيدي الوافدة لأوقات متأخرة من الليل، وبات التعامل فيها يتمُّ وفق سلوك استغلالي استفزازي معتمد لدى هذه الفئة من الجنسية الآسيوية في وضع المواطن أو المستهلك في صورة الأمْرِ الواقع، بفرض أسعار باهظة عليه، فمثلًا: تقديم صيانة للمكيِّف يحتاج إلى عشرة ريالات في مدَّة زمنيَّة قد لا تزيد عن نصف ساعة، كما أنَّ تعبئة غاز المكيِّف «السبليت» تحتاج إلى (10) ريالات عُمانيَّة أخرى أو أكثر من ذلك، وهكذا وصل الأمْرُ إلى أن يجنيَ أحدهم مئات الريالات في فترة قصيرة لا تتعدَّى السَّاعتَيْنِ؛ فإنَّ من شأن توجيه الأكاديميَّات المهنيَّة والمراكز والمعاهد ذات الصِّلة إلى تعزيز حضور هذه المهن في تخصُّصاتها سوف يكون له مروده الإيجابي في بناء مهارات وطنيَّة قادرة على سدِّ الفجوة الحاصلة في هذا القِطاع الذي يشهد سيطرة كاملة للأيدي الوافدة عليها.
ومع تعدُّد الأسباب التي باتت تُلقي بظلالها على تراجع الشَّباب وعدم جديَّتهم في الاستمرار في هذه المِهن، وجملة التراكمات السلبيَّة التي ما زال واقع الحوار والتفاعل التعليمي الحاصل في بيئة الصَّف وقاعات التدريس، ولغة الخِطاب الموجَّهة للطلبة تُمجِّد في الطلبة الوظيفة العامَّة والنظرة الضيِّقة نَحْوَ المِهن والعمل الحُر، لتضيف تدخُّلات أولياء الأمور في تحديد رغبات أبنائهم الدراسيَّة في المدارس والتخصُّصات التي يتَّجهون إليها في الدراسة الجامعيَّة والأكاديميَّة فصلًا آخر لحجم هذه التراكمات وتأثيراتها على قناعات المخرجات، لذلك بات التعاطي مع هذا الموضوع بحاجة إلى جملة من المرتكزات أساسها استباقيَّة تصحيح هذه الصورة الذهنيَّة ليس عَبْرَ الندوات والحملات الوطنيَّة والإعلاميَّة فحسب رغم أهمِّية ذلك كُلِّه، بل بإثبات الاهتمام بالتخصُّصات المهنيَّة والتقنيَّة والفنيَّة ومنحها حضورًا أكبر في منظومة التعليم المدرسي.
عليه، تُمثِّل التَّوجيهات السَّامية لحضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم ـ حفظه الله ورعاه ـ مدَد القوَّة ونقطة الانطلاقة ومَسيرة التحوُّل ومنهج العمل وطريق البدء في تغيير هذه الصورة، فبالإضافة إلى عاطر النطق السَّامي لجلالة السُّلطان المُعظَّم في مختلف المناسبات الوطنيَّة حَوْلَ سُوق العمل والمؤسَّسات الصغيرة والمتوسطة، جاء تأكيد جلالته في ترؤُّسه لاجتماع مجلس الوزراء الموقَّر في الثالث من يناير من عام 2023، باتِّخاذ الإجراءات لتهيئة البيئة المناسبة التي تساعد المواطنين على الالتحاق بكافَّة الأعمال، وتوعية الشَّباب بفلسفة العمل وثقافته السَّائدة عالميًّا، وتشجيعه على خوض مجالات الأعمال الحُرَّة، والتوجيهات السَّامية لجلالة السُّلطان المُعظَّم بـ»ضرورة الإسراع في اتِّخاذ الإجراءات اللازمة لتحليل الاحتياجات والمتطلبات الضروريَّة لتطبيق التعليم التقني والمهني بما يتوافق مع متطلبات سُوق العمل واحتياجاته المستقبليَّة، وأهمِّية تبنِّي منهجيَّة متكاملة لآليَّة تطبيق ذلك وتحديد الخبرات والموارد البَشريَّة اللازمة في هذا الشأن»؛ مرحلة مفصليَّة بتأطير منهجي وعلمي وتطبيقي للتعليم التقني والمهني كمسار تعليمي في مؤسَّسات التعليم المدرسي، ومساحة نوعيَّة ترصد تجلِّيات العمل المهني والتقني في حياة المُجتمع ومستقبل الشَّباب، الأمْرُ الذي يضع منظومة التعليم المدرسي، والأكاديميَّات المهنيَّة التابعة لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار، ومراكز التدريب المهنيَّة التخصُّصيَّة التابعة لوزارة العمل، والبرامج الاقتصاديَّة لروَّاد ورائدات الأعمال والشركات الناشئة في هيئة المؤسَّسات الصغيرة والمتوسطة وغيرها من الجهات ذات الصِّلة في تقديم نموذج وطني متكامل يضْمن رفع مستوى الاهتمام بالتدريب والتعليم والتأهيل في التخصُّصات المهنيَّة والتقنيَّة والفنيَّة التي تُسهم في تعزيز قدرات الشَّباب العُماني نَحْوَ الانخراط في العمل الحُرِّ، واكتساب ثقافة إدارة المشاريع والأنشطة الاقتصاديَّة ذات القِيمة المضافة وعالية الدخل، التي تُمثِّل ركيزة للاقتصاد الوطني.
إنَّ البحث اليوم في تعزيز حضور هذه المِهن في ثقافة الشَّباب والممارسة الاجتماعيَّة يتطلب جملة من الموجِّهات الدَّاعمة والمُحفِّزة، في سبيل بناء ثقافة، وخلق قناعة، وإنتاج سلوك، وتحقيق التزام ذاتي، بهدف الوقوف على حيثيَّات التعامل مع هذه المِهن، والأسباب الجوهريَّة التي تؤسِّس لنجاحها أو المنغِّصات التي تقضي على فرص نجاح الشَّباب فيها، وتصحيح الصورة الذهنيَّة والتراكمات السلبيَّة بمزيد من الحوافز والممكنات والإجراءات التي تصنع منها قوَّة لدعم الشَّباب العُماني في انخراطه في هذه الأعمال وممارسته لهذه المِهن، ونظرًا لكون دخول الشَّباب العُماني في هذه المِهن يتَّسم بالمحدوديَّة، والسُّوق العُماني فيه ما زال ناشئًا في ظلِّ سيطرة الأيدي الوافدة على هذا السُّوق ودخولها أحيانًا بِدُونِ خبرة أو من خلال التعلُّم غير الممنهج والممارسة التجريبيَّة، والتي أعطت صورة سلبيَّة أثَّرت في سمعتها في السُّوق، فإنَّ التوسيع في قاعدة وجود المواطن فيه يستدعي اليوم المزيد من العمل الوطني الجادِّ في توسيع قاعدة العمل الحُر وخيارات الأنشطة في هذه المِهن ومنع حالة الاحتكار، كما أنَّ الاتِّجاه نَحْوَ تعمين هذا القِطاع في ظلِّ أهمِّيته وما يوفِّره من فرص تشغيليَّة مناسبة للمواطنين يستدعي اليوم أن تقومَ الأكاديميَّات المهنيَّة والمراكز التدريبيَّة والمؤسَّسات التعليميَّة الحكوميَّة والخاصَّة في تبنِّي سياسات تدريبيَّة وتشغيليَّة تُعزِّز من كفاءة الشَّباب العُماني وتبنِّي مهاراته النَّوعيَّة والنَّاعمة في التعامل مع متطلبات هذه المِهن.
ويبقى الرهان بعد توفير البيئة التشريعيَّة والتنظيميَّة والمؤسَّسيَّة وإتاحة جملة الممكنات والمحفِّزات الدَّاعمة للشَّباب، على قدرة الشَّباب في التعاطي مع متطلبات هذه المِهن، سواء من خلال امتلاك المهارات الأساسيَّة والنَّاعمة المرتبطة بتنفيذ وإتقان ممارسة هذه المِهن، والاطلاع على كُلِّ المستجدَّات المرتبطة بها، فوجود الخبرة والتجربة والممارسة وتعهدها بالمطالعة والنُّمو، والإرادة والعزيمة والصبر والتعلُّم المستمر ومساحة التسويق وأخلاقيَّات المهنة والإتقان، والالتزام بالمواعيد، والجاهزيَّة المستمرة، وتوافر الأدوات المساندة للتنفيذ، وما يحتاجه من الخبرة المُتجدِّدة، سوف يقلِّل من عقبات دخول الشَّباب العُماني وانخراطه فيه، الأمْرُ الذي يُسهم في بناء صورة أخرى إيجابيَّة حَوْلَ ما يُمكِن أن يقدِّمَه الشَّباب العُماني في التعامل مع هذه المِهن، فإنَّ الثقة التي يمنحها الشَّباب لنَفْسه والتزامه وصبره وتحمُّله، وطريقة التسويق التي يلتزم بها في إيصال صورة منجزه إلى المُجتمع، كفيلة بإعادة تصحيح الصورة الذهنيَّة السَّالبة التي يحملها الشَّباب نَفْسه أو نظرة المُجتمع إلى الداخلين في هذه المِهن والبيئة التي يعملون فيها؛ ونعتقد بأنَّ ثقة المُجتمع في الشَّباب العُماني وقدرته على التعامل مع هذه الأمور في ظلِّ التجارب والنماذج التي أبرزتها في الواقع يجعل منها فرصة لانطلاقة الشَّباب الجادَّة نَحْوَ الانخراط في هذه المِهن.
عليه، فإنَّ التعامل الجادَّ من الحكومة مع العمل الحُر وانخراط الشَّباب في هذه المِهن، بحاجة إلى مزيدٍ من التشريعات والمحفِّزات التي تحافظ على حضور الشَّباب العُماني في هذه المهنة، تبدأ بِدَوْر أعمق للأكاديميَّات المهنيَّة ومؤسَّسات التعليم ومراكز التدريب في إعطاء جرعات تثقيفيَّة وتنفيذيَّة وتطبيقيَّة مدعومة بالحافز الفكري والمهني والنَّفْسي لمخرجاتها في الانخراط في هذه المِهن، وإتاحة الفرصة للداخلين فيها لإكمال دراساتهم الجامعيَّة والعليا، وفق آليَّات منظَّمة يُمكِن أن تنمِّيَ فيهم روح التغيير وحسَّ المسؤوليَّة والانتظام في التعامل مع هذه المِهن، ويأتي دَوْر هيئة المؤسَّسات الصغيرة والمتوسطة، ولكون هذه القِطاعات ناشئة إذا ما نظرنا لعدد العاملين فيها من الشَّباب العُماني في تشجيع الشَّباب وتوسيع الخيارات لهم، وتقديم الدعم والحوافز، والإعفاء من بعض الضرائب والرسوم وتقديم بعض الامتيازات في تعاملات الداخلين في هذه القِطاعات والمِهن كروَّاد أعمال وأصحاب مؤسَّسات أو عاملين مستقلِّين من أجْل توفير كُلِّ الفرص التي تصنع فيهم روح المسؤوليَّة، والاستمرار في هذه المِهن، ومن جهة أخرى يؤدِّي تنظيم هذه المِهن وإعادة إنتاجها في المسار الوظيفي والاقتصادي مساحة أمان للشَّباب للحفاظ على وجوده فيها، فمثلًا: يضمن وجود الجمعيَّات المهنيَّة الأهليَّة في هذه المِهن من الشَّباب العُماني العامل، فرصة لتحقيق تحوُّل نوعي في الحفاظ على حقوق القائمين على هذه المِهن والمنخرطين في هذه الأنشطة، وجملة الاستحقاقات التي تحفظ لهم كيانهم المهني، وتحافظ على نشاطهم الاقتصادي وسمعتهم في السُّوق، والثقة المهنيَّة التنافسيَّة بأنَّ ما يقدِّمونه يفوق التوقُّعات ويحظى بتقدير المواطن؛ كما أنَّه فرصة لمزيد من تبادل الخبرات، وإنتاج الوعي وتقديم فرص أكبر داعمة للشَّباب الصاعد، ومساحة مُتجدِّدة لمعالجة التحدِّيات والمشكلات التي تواجههم، وإيصال صوتهم إلى هيئة المؤسَّسات الصغيرة والمتوسطة والمؤسَّسات ذات العلاقة.
أخيرًا، أختم مقالي بسؤال طرحته على أحد الشَّباب العُماني العامل في قِطاع خدمات صيانة المكيِّفات، حيث يُدير مع زميله شركة ناشئة مسجَّلة في هيئة المؤسَّسات الصغيرة والمتوسطة، سألته عن مدى رضاه عن عمله والنصيحة التي يقدِّمها للشَّباب العُماني للانخراط في هذه المِهن فكانت إجابته: «شخصيًّا أشعر بفخر واعتزاز وارتياح كبير، حيث أخذت الموضوع بجِديَّة منذ دخلت التخصُّص في الكلِّية التقنيَّة العليا ـ حينها ـ وأنا في هذا العمل لي أكثر من ٨ سنوات؛ ورغم أنَّ سُوقنا يُعدُّ ناشئًا، إلَّا أنَّنا أثبتنا فيه بصمة نجاح، ولديَّ قناعة بأنَّه إذا كسبت الثقة يمشي سُوقك، ومن خلال تجربتي وجدتُ أنَّ الكثير من العُمانيين يفضِّلون التعامل مع العُماني، وهذا الذي لمستُه، والحمد لله عندي عقود عمل وارتباط مع عُمانيين ـ منازل أو مؤسَّسات، وثقتهم بعملي كبيرة، وما أقدِّمه من بصمات نجاح أفخر بها، يزيد من فرص الأعمال لديَّ، والحصول على زبائن أكثر». إنَّها دعوة للشَّباب العُماني في استثمار هذه الفرصة بالانخراط في هذه المِهن التي أصبحت تدرُّ مكسبًا كبيرًا ومالًا وفيرًا.


د.رجب بن علي العويسي
[email protected]