تطرَّقنا في الأسبوعَيْنِ الماضيَيْنِ حَوْلَ نظريَّات ومفاهيم وسِمات القيادة الرَّشيقة والإدارة الكلاسيكيَّة التي كانت تغطِّي على عالَم إدارة الأعمال بسبعينيَّات القرن الماضي باختلاف المدارس وآراء علماء الإدارة ـ آنذاك. النهضة التكنولوجيَّة التي حصلت في العالَم نهاية القرن الماضي قد قلبت الموازين 360 درجةً وتحوَّل العالَم إلى قرية صغيرة، والبعيد أصبح قريبًا، بالإضافة إلى التغيُّرات الكبيرة التي حصلت في السِّياقات الإداريَّة، ومنها الدبلوماسيَّة، حيث كانت المخاطبات أغلبها بالحقيبة الدبلوماسيَّة أو بالطريقة الأمنيَّة المتعارف عليها بنقل المخاطبات الإداريَّة الاعتياديَّة والخاصَّة أيضًا. واليوم نتكلَّم ونُعرِّج على أهمِّ أعمدة وجوانب القيادة الرَّشيقة والإدارة الكلاسيكيَّة، ألَا وهي (الكفاءة)؛ لأنَّ الاثنين لا يمكن لهما تحقيق أيٍّ من الأهداف التكتيكيَّة أو الاستراتيجيَّة بدُونِ عنصر (الكفاءة) التي تُعدُّ تاج الأعمال الإداريَّة بكُلِّ مفرداتها.
تُعرَّف الكفاءة بأنَّها خبرة الإنسان في مجال عمله، سواء كان حاملًا لشهادة جامعيَّة أو بدُونِها. وعلى سبيل المثال، نشاهد فلَّاحًا بمنتهى الكفاءة يُدير مزرعةً بأعلى مواصفات المهنيَّة، ولا يملك حتى الشهادة الابتدائيَّة. وهناك أمثلة كثيرة أخرى، لذلك الكفاءة في بعض الدوَل تعتمد كثيرًا على الخبرة الطويلة في مجال العمل بعيدًا عن الشهادات الجامعيَّة بمختلف درجاتها وأنواعها، ولكن يُفضَّل ممَّن لدَيْهم الشهادات الجامعيَّة؛ لِمَا فيها من نظريَّات ومفاهيم حديثة. إنَّ الكفاءة تُبنى بالدَّرجة الأساس على الأخلاق الحميدة، وما يحمله الموظف من صفات الصِّدق والأمانة وحُب الخير للآخرين والتضحية والوفاء والمطاولة للوظيفة؛ لأنَّ الموظف الأناني سوف يحرم زملاءه من أبسط حقوقهم، والدبلوماسي المتكبِّر لَنْ يخدمَ إلَّا نَفْسَه. وكم من أُناس لدَيْهم شهادات كثيرة ومتعدِّدة ولكنَّهم غير أكْفاء؛ بسبب حُبِّهم لأنفسهم وقلَّة خبرتهم بمجال العمل.
والكفاءة هي موهبة لإنجاز هدف مُعيَّن من العمل بوقت محدَّد وخبرة محنَّكة، وقد تكونُ الكفاءة بدنيَّة أو عقليَّة، ولا يُمكِن التعبير عن الكفاءة بأنَّها فَهْمٌ، أو قدرة، أو معرفة يتمُّ تعلُّمها، أو اكتسابها، أو تحصيلها من الآخرين، وإنَّما هي مجموعة كبيرة من المفردات في جعبة الفرد. أمَّا سِمات الكفاءة فهي التركيز على تحقيق أفضل النتائج بأقلِّ التكاليف، والجهود؛ فالكفاءة الإنتاجيَّة تختلف عن الكفاءة الفنيَّة. فعلى سبيل المثال، نجد أنَّ الكفاءة الإنتاجيَّة بالإنجليزيَّة: Productive efficiency تعني: تحقيق أكبر قدر من الإنتاج بأقلِّ قدرٍ من المُدخلات، وأدنى تكلفة مُمكنة، أمَّا الكفاءة الدبلوماسيَّة فهي ما يُحقِّقه السَّفير أو كادر السفارة في تطوير علاقات بلده في ساحة عمله في مختلف المجالات، وخصوصًا الاقتصاديَّة لغرض دعم وتطوير مفردات الدخل القومي لبلده وذلك من خلال تطبيق مبدأ القيادة الرَّشيقة بكفاءة عالية جدًّا، والوصول إلى سُموِّ الأهداف التي من شأنها إذابة الجليد والفتور في العلاقات الدبلوماسيَّة والاقتصاديَّة.. وغيرها من المجالات.
أنواع الكفاءات: هناك اختلاف بَيْنَ الباحثينَ حَوْلَ تصنيف أنواع الكفاءات، إلَّا أنَّ أبرز تصنيف هو تصنيف (Celile Dejoux)؛ حيث صنَّفها ضِمْن ثلاثة مستويات هي:
1. الكفاءة الفرديَّة: وهي عبارة عن المهارات والمؤهلات التي يمتلكها الشخص من خلال التجارب الشخصيَّة، والمهنيَّة، بحيث يستخدمها في تحقيق أهداف مُعيَّنة، وخصوصًا مع التطوُّر الحاصل في المعلوماتيَّة.
2. الكفاءة الجماعيَّة: وهي كفاءة تنشأ من خلال تضافُر وتجميع جهود الكفاءات الفرديَّة وتعاونها والتواصل الفعَّال بَيْنَ الأعضاء جميعهم في العمل، وتوفير المعلومات المناسبة لهم. كما أنَّها تُمثِّل حلقة وصل بَيْنَ الاستعدادات والمعلومات المتوافرة والقدرات الموجودة لدَيْهم بحيث يُشكِّلون فريقًا مهنيًّا قادرًا على تحقيق الأهداف المطلوبة بكفاءة.
3. الكفاءة التنظيميَّة (الاستراتيجيَّة): وتتمُّ من خلال إيجاد التكامل بَيْنَ الكفاءات الفرديَّة، وذلك من خلال اتِّباع آليَّات مُعيَّنة للتنسيق بَيْنَها، وهذا يعتمد بالدَّرجة الأساس على القائد وقراراته الصائبة باختيار ودمج وتوليفة من سِمات الكفاءات بَيْنَ الأفراد، وخصوصًا الانتباه إلى التجانس الفكري والدِّيني والمذهبي والمادِّي والاجتماعي والتكنولوجي والمستوى العلمي الأكاديمي، التي تُسهم بطريقة ما إلى الوصول إلى أفضل النتائج المرجوَّة. إنَّ جميع أنواع الكفاءات تستند إلى درجة كبيرة إلى: كفاءة (التخطيط، الإدارة، التنفيذ أو الأداء، والرقابة، العلاقات الإنسانيَّة، الموارد الماليَّة، الكفاءة التقنيَّة، مبدأ التكريم والتنبيه، إدارة الوقت، التقييم، الأدوات والموارد البَشَريَّة، مركزيَّة القرار، الخطط البديلة). علمًا أنَّ هذا كُلَّه يستند إلى الجهة الحكوميَّة أو الخاصَّة نَفْسِها ونوع عملها ومدى إدراكها لعلاقاتها مع البيئة المُحيطة بها. وفي الختام، إنَّ من أكثر الأسلحة التي تُدمِّر مفهوم الكفاءة حسب رؤية فرويد هي (مدرسة الأنا) بكُلِّ صفاتها ومُسمَّياتها من الأنانيَّة وحُبِّ الذَّات والنظرة الاستعلائيَّة، والتفرُّد بالقرار والانطواء المهني.. وغيرها من مُعوِّقات تحقيق الأهداف المرجوَّة.


د. سعدون بن حسين الحمداني
الرئيس التنفيذي للأكاديمية الدولية للدبلوماسية والإتيكيت