هناك حالة من التفاؤل المفرط في الغرب بأنَّ أوكرانيا استعدَّت بشكلٍ جيِّد للهجوم المضاد، أو هجوم الصَّيف، كما يُسمونه إعلاميًّا، على القوَّات الروسيَّة في الشرق. وأنَّ الولايات المُتَّحدة والغرب جهَّزها بكُلِّ ما يُمكِن من سلاح وعتاد كَيْ تتمكَّن من هزيمة روسيا. وبغضِّ النظر عن حقيقة أنَّه لا يتوقع أن يُحقِّقَ أيٌّ من طرفَي المواجهة «نصرًا» عسكريًّا على الآخر، فإنَّ إمكانيَّة أن يؤدِّيَ هجوم الصَّيف إلى استعادة أوكرانيا للمناطق التي سيطرت عليها روسيا وضمَّت بعضها إليها كما فعلت مع شِبه جزيرة القرم عام 2014 تبدو بعيدة الاحتمال. ربَّما لا يتعلَّق ذلك بالقدرات العسكريَّة الروسيَّة التي لا شكَّ أنَّها أظهرت ضعفًا واضحًا لَمْ يُمكِّن موسكو من حسم «العمليَّة العسكريَّة الخاصَّة» في أوكرانيا بالشَّكل الذي كانت تخطط له. ومع أنَّ المرء لا يُصدِّق كُلَّ ما يقرأ ويسمع في الإعلام ومن تصريحات السِّياسيين في الجانبَيْنِ، إلَّا أنَّه يُمكِن استخلاص أنَّ القوَّة العسكريَّة انكشفت بأنَّها ليست بالشكل المهيب الذي كان يتمُّ تصويره من قَبل. على الجانب الآخر، ومهما كان الدعم العسكري الذي تُقدِّمه أميركا وبعض دوَل أوروبا لكييف، فلا يُمكِن تصوُّر أنَّ جيش أوكرانيا قادر على حسم معركة مع الجيش الروسي.
ربَّما كان الهدف من هجوم الصَّيف هو أن تُحسِّنَ أوكرانيا من مواقعها على الأرض كمُقدِّمة لأيِّ مفاوضات تسوية، وأيضًا بالنسبة لأميركا والغرب الضغط أكثر على القدرات العسكريَّة الروسيَّة بما يجعل موسكو ترضخ لشروط أكبر في أيِّ مفاوضات متوقَّعة. وكذلك استنزاف القدرات الروسيَّة عمومًا ربَّما لهزِّ استقرار الحُكم على أمل حدوث اضطرابات في موسكو وتحويل روسيا إلى «دولة فاشلة» كما فعل الأميركان والغرب مع عدَّة دوَل في العالم خصوصًا في منطقتنا. من الواضح أنَّ أوكرانيا تعتمد على العمليَّات التي تثير ضجَّة أكثر من استحواذها على أراضٍ تسيطر عليها القوَّات الروسيَّة، لذا نشهد هجمات حتى داخل روسيا واستهدافًا لمواقع ذات أهمِّية وتأثير إعلامي في شرق البلاد الذي تسيطر عليه روسيا. المثير هو اللجوء لتكتيكات كالتي استخدمها الأوكرانيون في بداية العمليَّة العسكريَّة الروسيَّة مطلع العام الماضي: استهداف البنية التحتيَّة بما يُحقِّق هدفَيْنِ. الهدف الأوَّل الإضرار بالسكَّان والقوَّات في المناطق الخاضعة لروسيا، والثاني اتِّهام روسيا بالقيام بذلك، وأنَّها تستهدف البنية التحتيَّة المدنيَّة وترتكب جرائم حرب.
هذا ما حدث بالفعل مع تدمير سدِّ نوفا كاخوفكا على نهر دنيبرو، ما أدَّى إلى فيضانات هائلة أغرقت عدَّة قرى وبلدات في المناطق الخاضعة لروسيا. وبمجرَّد تفجير السَّد كان المدَّعي العامُّ الأوكراني يُجهِّز ملفًّا لإدانة روسيا بارتكاب جرائم حرب بتفجيرها السَّد. ذلك على الرغم أنَّ هذا السَّد الوحيد من بَيْنِ عدَّة سدود على النهر الذي يقع ضِمْن مناطق خاضعة للقوَّات الروسيَّة. وليس مفهومًا كيف سيُفجِّر الروس السَّد ليُدمِّروا المناطق التي يسيطرون عليها. ليس هذا فحسب، بل إنَّ هذا السَّد تحديدًا هو الذي يمدُّ شِبه جزيرة القرم، التي ضمَّتها روسيا، بأغلب المياه التي تحتاجها (نسبة 85 في المئة). ويشغل السَّد محطَّة كاخوفسكايا الهيدروكهربائيَّة لتوليد الكهرباء. كما أنَّ خزَّان السَّد الهائل هو من أهمِّ مصادر المياه لتبريد مفاعلات محطَّة زابوروجيا النوويَّة الخاضعة أيضًا للسيطرة الروسيَّة. ومن المُهمِّ التذكير بأنَّ أوكرانيا حاولت مرارًا «تخريب» هذه المحطَّة النوويَّة في سياق اتِّهام روسيا بالتسبُّب في كارثة نوويَّة عالميَّة. بالطَّبع ليس غريبًا أنَّ الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أكَّد في شهر أكتوبر الماضي أنَّ روسيا ستُدمِّر سدَّ كاخوفكا!! مِثل كُلِّ حرب تكونُ الحقيقة هي أوَّل ضحيَّة، لكنَّ القياس المنطقي بالعقل لا يقبل بسهولة أنَّ روسيا دمَّرت السَّد للإضرار بنفسها. ربَّما يجوز سحل المنطق نفسه على الاحتمال الآخر وهو أنَّ الأوكرانيين دمَّروا السَّد ليغرقوا السكَّان تحت مياه فيضان ارتفع منسوبها أكثر من 11 مترًا ويحرموا البلاد من الطاقة من محطَّة كاخوفسكايا. أمَّا ما يتعلَّق بمحطَّة زابوروجيا النوويَّة فالأحداث السَّابقة تدعم رغبة الأوكرانيين في الإضرار بها للصَقِ تهمة ضخمة بروسيا: كارثة نوويَّة.
ربَّما يُفيد هنا العودة إلى بدايات العمليَّة العسكريَّة الروسيَّة حين كان الأوكرانيون يُفجِّرون الطُّرق والجسور لوقف تقدُّم القوَّات الروسيَّة التي تستخدمها، ثمَّ يُصرِّحون بأنَّ القوَّات الروسيَّة تقصف وتُدمِّر البنية التحتيَّة الأوكرانيَّة من طُرق وجسور. واعتمد الأوكرانيون على انحياز الإعلام الغربي بشكلٍ فجٍّ لروايتهم في إطار التعبئة العامَّة ضدَّ روسيا، لكنَّ بعض المراسلين القلائل حاولوا التعامل مع الصُّور بموضوعيَّة ليتَّضح أنَّ الأوكرانيين هم الذين يقومون بالتفجيرات وليس الروس. لا يعني ذلك أنَّ القوَّات الروسيَّة دقيقة جدًّا في تحديد أهدافها، أو أنَّها بذلك القدر العالي من المهنيَّة العسكريَّة الذي يجعلها تتجنَّب الأهداف المدنيَّة. لكنَّ الرواية الروسيَّة غالبًا «محجوبة» في سياق الحظر الغربي على الإعلام الروسي وطغيان مصادر الأخبار الغربيَّة وهيمنتها على العالَم تقريبًا. وإذا كان تفجير السَّد هو الشَّكل الأوضح لهجوم الصَّيف، فإنَّ على العالَم أن ينتظرَ الكثير من المآسي، وربَّما الكوارث، في الأسابيع والأشهر القادمة، خصوصًا إذا حدثت أيُّ أضرار محتملة لمحطَّة زابوروجيا النوويَّة. ولَنْ تكونَ الإدانة لروسيا، سواء مفتعلة أو صحيحة، ذات معنى إذا وقعت الكارثة ومع انتشار التلوُّث الإشعاعي الذي لَنْ يقتصرَ بالتأكيد على أوكرانيا وحْدَها.



د.أحمد مصطفى أحمد
كاتب صحفي مصري
[email protected]