.. ولعل قوله تعالى:(ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس)، فيه تنبيه لأهل قريش أن يكونوا في غمار الناس، فكلهم سواسية عند الله؛ حيث كانوا يفيضون من مكان خاص بهم بعيدًا عن الناس، يُسَمَّى الحمس، ويقولون:(نحن أهل حرم الله، لنا سمات وميزات تختلف عن كل البشر، فنفيض من مكان آخر مختلف حيث مكانتنا ومنزلتنا)، فنهاهم الله تعالى عن ذلك، وأمرهم أن يفيضوا من حيث يفيض الناس، ولا يتكبرون، فهو كناية عن عدل الله، وأن المسلمين كلهم عنده سواء، لا فضل لقرشي على عربي إلا بالتقوى، و(أل) في (الناس) إما عهدية ذهنية، أي الناس الحجاج الذين هم على أرض المشعر الحرام وأرض عرفة، وقد جاءوا من كل مكان في العالم، وهم يفيضون من مكان خاص معلوم للجميع، وإما جنسية، أي: من حيث أفاض جنس الناس، وهو في الأخير كناية عن العدل في الإسلام، وأن الناس سواسية في الأحكام الشرعية، ومتساوون في التكليفات، وأمرهم بعد ذلك بالاستغفار لجبر ما كان، ولأن الاستغفار يلين القلوب، ويعيدها إلى سالف رقتها، وأصيل طبعها، وكمال فطرتها، وهو فعل أمر للوعظ، والإرشاد، والتنبيه، وجاء التذييل مؤكدًا على هذه الصفة الكريمة من صفات الله، فقد عبر عنها بالجملة الاسمية المؤكدة:(إنّ الله غفور رحيم)، أي: لأن الله غفور رحيم، كأنما هي تعليل لما قبلها، وهو لون من ألوان التماسك النصي، والحبك السياقي، والربط الداخلي؛ لتوقفه على ما قبله، وتوقُّف ما قبله عليه، فثمة ارتباط معنوي، لا لفظي، فهو حبكٌ، وارتباطه دون أداة عطف، ونحوها من الأدوات التي تسبك ما بعدها على ما قبلها، وجملة:(إن الله غفور رحيم) هي جملة اسمية مؤكدة، تؤكد سياق ما قبلها، فهم إذا استغفروا وجدوا الله غفورًا رحيمًا، و(غفور ورحيم) صفات مشبهة تعني الثبوت التام، والجامع، والشامل للصفتين الكريمتين من صفات الله تعالى الرحمة والمغفرة.
ونعلم أن الأصل في أعمال الحج الذكر والاستغفار والتضرع، ونجد الآيات الكريمات تنضح بالتنبيه على ذكر الله، وعلى استغفاره؛ مما يشي أن الذكر والشكر هما أساس قبول الأعمال، وأنها تتوقف عليهما بعد إتمام أساس الأعمال من طواف، وذهاب إلى عرفات، وإفاضة منه، وانتقال إلى مزدلفة، ومنى، ورمي الجمرات، وتقديم الفداء، وطواف الحج، وطواف الإفاضة، ونحوها من أعمال الحج، وفقهياته، يبقى أن الأصل الاستغفار والذكر والتكبير والدعاء.
ثم في نهاية الحج يقول الله تعالى:(فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (البقرة 200 ـ 201).
جاءت الفاء للعطف، و(إذا) للتحقيق، وللشرط في المستقبل، واستعمالها يعني أن أعمال الحج ستنتهي لا محالة، وجملة المضاف:(قضيتم مناسككم) كناية عن انتهائها، وراحة القلب معها، ونسبها إليهم:(مناسككم)؛ اعتدادا بتعبهم، وأعمالهم، وطاعتهم، وإلا فالله الذي أقدرهم، وقوَّاهم، وبصرهم على فعلها، وعملها، ويأتي الجواب:(فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرًا) عود على قضية القضايا في أعمال الحج، وهي ذكر الله، وتعظيمه، وهو أمر للنصح، والإرشاد، وقد جمعهم:(اذكروا) لبيان وحدتهم في كل أعمال الحج، والكاف للتشبيه، والتعبير بالمصدر:(كذكركم) يفيد ثبات ذلك، واستمراره، وهو من قبيل إضافة المصدر إلى فاعله، ونصب مفعوله، أي كما تذكرون آباءَكم، ثم عطف:(أو أشد ذكرًا)، وهو كناية عن عظمة الذكر، وأنه يلزم أن يكونوا أكثر ذكرا من الآباء، وأشد؛ لأنه لله تعالى، ونتعلم أن ذكر الله هو فوق كل ذكر، ولا يقارن بأيِّ ذكر، و(أشد) أفعل تفضيل، أي: أكثر ذكرًا من ذكر الآباء، وقد قسّم القرآن الكريم الناس إزاء الحياة، وسبيلها، والنظر إليها إلى قسمين: الأول: من يقول آتنا في الدنيا، أي يقصر أمله على الدنيا، وزينتها، ولا ينظر له إلى الآخرة، ويظل حياته مرتبطا بالدنيا، ولا يعمل للآخرة، فقيل في حقه:(فما له في الآخرة من خلاق)، أي نصيب، ولا ثواب، وقوله:(فمن الناس) تفيد (من) التفصيل، و(أل) في الناس جنسية، والفعل المضارع يفيد الاستمرار، فشأنه دوام البحث عن الدنيا، وزينتها، وما فيها؛ ومن ثم كانت عاقبته كؤودا بأنه حُرِمَ خير الآخرة، واستعمال النكرة في سياق النفي جعلها تعمُّ:(فما له في الآخرة من نصيب)، فهو ليس له أيُّ نصيب، ولا أدنى حسنة، ولا قَسْم، لأنه قصر نظره على متاع الدنيا الفاني، وترك عبادة ربه، والعمل للآخرة، وحذف المفعول الثاني، وأبقى ما تعلق به من شبه الجملة، أي: آتنا نصيبنا حاصلًا، أو كائنًا في الدنيا، وفيه كلك كناية عن تعلقهم بالتراب، والطين، والنقص، وعدم تفكيرهم في الآخرة، ومنازلها السامية، وأن تركيزهم في الطين، والشهوات، وليس في رأسهم مسكة من عقل، ولا حصافة، ولا يحسنون هدفا، ولا يعرفون رسالة لهم، ولا مهمة.



د.جمال عبدالعزيز أحمد
كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية
[email protected]