ما زلت أذكر ذلك الحديث وما تضمَّنه من نصائح ظلَّت عالقة في ذهني طوال مشواري في العمل الصحفي، ذلك الحديث الذي حدَّثني به أحد أساتذتي الذين تعلَّمت على يدهم مهارات العمل الصحفي وفنونه. ما زلت أذكر قراءته لمستقبل العمل الصحفي، وكأنَّها قراءة عرَّاف يعرف أحداث الماضي ويتنبأ بأحداث المستقبل، حيث قال: يا ابنتي هناك سؤال سيظلُّ مطروحًا في الوسط الصحفي، ولعلَّه أحد هموم الصحفيين وهو: هل الصحافة تحتضر؟! ذلك السؤال يُشكِّل تحدِّيًا للصحفيين والمُفكِّرين، فالصحافة ستظلُّ تُواجِه التحدِّيات والمنافسات وربَّما صراعات قد تودي بها للموت، ما لَمْ يكُنْ هناك مَن يؤمن بها فيحميها من الموت وينقذها قَبل أنْ تلفظ أنفاسها. لقد واجهت الصحافة تحدِّيات على مرِّ الزمان كادت أن تهلكَها لولا أيادي المؤمنين بالعمل الصحفي التي انتشلتها من الموت، ففي بدايات الستينيَّات من القرن الماضي ظنَّ النَّاس أنَّ الصحافة تحتضر، ذلك الزمن الذي كانت الصحف تُخطُّ بريشة الخطَّاطين، وتُنسخ بأدوات (الاستانسل) البدائيَّة، وكانت توزَّع قَبل أن تبزغَ الشمس فيخرج ساعي البريد بدرَّاجته البسيطة، أو ساعيًا على رِجلَيْه، فيرتاد الشوارع ليبيعها على القرَّاء، وهو ينادي بأعلى صوته بعناوين الموضوعات المُهمَّة التي تشغل بال القرَّاء، ليُحفِّز الناس على شراء الصحيفة، فيتخطاها القرَّاء ويتشاركون في قراءة النسخة الواحدة. لِتكونَ تلك الأوراق نافذتهم على أحداث العالم، فيطلعوا على أخبار الدوَل البعيدة وما فيها من تطوُّرات في الحروب، وأحداث وطنهم التي تُشكِّل الهَمَّ العامَّ لدى النَّاس. في ذلك الوقت كانت الصحافة متربِّعة على عرش اهتمام الجمهور. وبَيْنَ ليلة وضحاها ظهر لها منافس شرس اختطف اهتمام الجمهور منها إنَّه المذياع، بما فيه من قنوات متنوِّعة كالقنوات الإخباريَّة التي تذيع الأخبار والأحداث ساخنة طازجة، فلا تمرُّ سويعات من وقوع الحدث حتى يُذاع الخبر فيسمعه القاصي والدَّاني. هنا يا ابنتي استصرخنا وظننَّا أنَّ الصحافة تحتضر، فالنَّاس ستقرأ الخبر في الصحيفة، بعد أن أصبحَ خبرًا قديمًا، بعدما سمعه النَّاس في المذياع وتداولوا الخبر وتناولوه بالنقاش والتعقيب. لكنَّ الصحافة صمدت، بجهود الصحفيين والكُتَّاب الذين أصرُّوا على أن تكُونَ أوراق الصحيفة هي منبرًا لطرح أفكارهم وتحليلاتهم للأحداث، فأبدعوا في تنوُّع المادَّة المطروحة في الصُّحف لتلامسَ احتياجات النَّاس وتكُونَ الصحيفة هي الرفيق اليومي لقهوة الصباح التي يتناولها الجميع، فحافظت الصحافة على صفحاتها لتصل إلى اهتمام القرَّاء، فهناك صفحة محليَّات التي تتضمَّن أخبار وأنشطة الجهات الحكوميَّة وتصريحات المسؤولين بها، وظلَّت منابر القرَّاء قائمة في صوَرها المختلفة مِثل صفحة بريد القرَّاء التي كانت تُشكِّل وسيلة لإيصال صوت المواطن للمسؤول، وتعكس همومه ومشاكله، وصفحة كُتَّاب الرأي التي تُشكِّل منبرًا للكُتَّاب والمُفكِّرين، والصفحة الاجتماعيَّة التي تنشر تتضمن الاخبار الاجتماعيَّة من أخبار الزواج والوفيَات والتخرُّج من الدراسة، ناهيك عن تلك الصفحات المتخصِّصة كصفحة الرياضة، والأُسرة، والفنون، والتي تلامس اهتمامات فئات مختلفة من المُجتمع، وظلَّت الصحافة متربِّعة على عرشها رغم منافسة المذياع بجهود عمالقة الصحافة الذين حموا حماها. وما هي إلَّا سنوات حتى ظهر منافس خطير للصحافة، بل للقراءة بصورة عامَّة كقراءة الكتُب والمجلَّات والصُّحف، فقد اختطفت شاشة جهاز التلفاز أعيُن النَّاس من تلك الصفحات عن القراءة بمشاهدة برامج التلفزيون والتي تقدِّم مادَّة مسموعة ومرئيَّة، فتجمع بَيْنَ الفائدة والمُتعة معًا: كالبرامج الإخباريَّة، والوثائقيَّة، والعلميَّة، والتعليميَّة، وبرامج الأطفال والأُسرة والمرأة، حتى كاد النَّاس أن يهجروا الصُّحف، بل وحتى المجلَّات والكتُب، فبرامج التلفاز تقدِّم كُلَّ ما يُشبع اهتمامات النَّاس، وتتيح لهم المتعة والمشاهدة الجماعيَّة لتلك البرامج فيكُونُ هناك التفاعل الاجتماعي بَيْنَ أفراد الأُسرة مع بعضهم البعض عند مشاهدة تلك البرامج كالضحك الجماعي، والتعليقات الطريفة حَوْلَ فقرات البرامج المُسلِّية، أو المناقشة حَوْلَ موضوع مُعيَّن يُطرح في البرامج التلفزيونيَّة، أو الحماس والتشجيع عند مشاهدة المباريات، حتى بات النَّاس يقضون ساعات طويلة من يومهم أمام تلك الشَّاشة منصرفين بذلك عن القراءة. فلَمْ تَعُد الصحافة متربِّعة على عرش اهتمام الجمهور، حتى كاد البعض أن ينعَى الصحافة ويستسلم. ولكنَّ الصحافة صمدت بسواعد عمالقة الصحافة، وقد ساعدها على الصمود تطوُّر وسائل الطباعة، وظهور المطابع الورقيَّة حيث سهولة نسخ الصُّحف، وطباعتها، وظهرت الطباعة الملوَّنة الجذَّابة، وأجهزة الحاسوب التي سهَّلت التصميم الجذَّاب للمطبوعات، فتحدَّت الصحافة التلفاز ونافسته، لتسترجع اهتمام الجمهور، وتتربَّع على عرش اهتمامات الجمهور ثانية. يا ابنتي اِعْلَمي أنَّ الصحافة ستظلُّ تُواجِه التحدِّيات وسيظهر لها المنافسون على مرِّ الأجيال، ولَنْ تصمدَ إن لَمْ يكُنْ لها جنود بواسل يؤمنون بها ويذودون عن حماها لتظلَّ كما يصفها النَّاس بأوصاف من قبيل «صاحبة الجلالة» والسُّلطة الرابعة». رحمك الله يا أستاذي الجليل، فما أشْبه اليوم بالبارحة، فالصحافة تستصرخ اليوم، ويظنُّ البعض أنَّها تحتضر حتى كاد البعض ينعاها، فهي اليوم تُواجِه جحافل وسائل الإعلام الاجتماعي، والتي تعجُّ بالأخبار الفوريَّة، والمنقولة من قلب الحدث فتصل للجمهور، قَبل أن تولَد الصحيفة اليوميَّة من المطبعة، وهي منبر حُر يرتقيه كُلُّ مَن لدَيْه مطالب، فينادي ويستغيث، وتتفاعل الجهات الرسميَّة، والمُجتمع المدني، والنَّاس مع تلك الاستغاثات، وتستجاب مطالبه بَيْنَ ليلة وضحاها، في حين أنَّ المطالب التي تطرح عَبْرَ الصُّحف وفي صفحة بريد القرَّاء، تمرُّ بمخاض عسير حتى تُحقق تلك المطالب. وهي منبر للتعبير عن الرأي لتصل تلك الآراء للجمهور في ثوانٍ، وتكون على طاولة المناقشات والحوارات عَبْرَ وسائل التواصل الاجتماعي. ولكن بقراءة دقيقة للمشهد الصحفي نجد أنَّ الجمهور ما زال يقرأ الصحيفة، ولكن يقرأ النسخة الإلكترونية منها، فالصحيفة تنشر على الموقع الإلكتروني وعَبْرَ وسائل التواصل الاجتماعي الخاصَّة بالصحيفة قَبل التي أن تُنشرَ الصحيفة الورقيَّة ورقيًّا، فتغني القرَّاء عن شراء الصحيفة الورقيَّة. فالصحافة ما زالت محلَّ ثقة الجمهور واهتمامهم، فهي أكثر مصداقيَّة في نقل الخبر، وأطروحاتها المطروحة في ملفاتها محلُّ تقبُّل واحترام الجمهور. لكنَّ المشكلة تكمن في تمويل الصحيفة نفسها. وبعبارة صريحة فإنَّ أزمة الصحافة ليست أزمة تقبُّل النَّاس للمحتوى الصحفي، بل هي أزمة ماليَّة استثماريَّة للمؤسَّسات الصحفيَّة، فلَمْ تَعُدْ لدَيْها الموارد الماليَّة الكافية لتحقيق الأرباح، بل إنَّ إيراداتها أحيانًا لا تكفي لتحمُّل المصروفات التشغيلية من رواتب، وكلفة طباعة الصحيفة، ورسوم الكهرباء والماء، لذا على الصحف أن تعيدَ النظر في مصادر تمويلها، وتلجأ لطُرق استثمار متنوِّعة تُعزِّز مواردها، لتظلَّ الصحافة متربِّعة على عرش الإعلام... ودُمْتُم أبناء قومي سالمين.


نجوى عبداللطيف جناحي
كاتبة وباحثة اجتماعية بحرينية
متخصصة في التطوع والوقف الخيري
[email protected]
Najwa.janahi@