تطرح مفاهيم الأمن والسلامة الوقائيَّة وقضاياها المتشعبة، اليوم على الدوَل والحكومات الحاجة إلى قراءة معمقة تعالج هذه القضايا بصورة متكاملة شاملة لمواجهة تراكم التحدِّيات ذات الأبعاد الأمنيَّة في حياة المواطن، بحيث تتناول الموضوع من أوسع أبوابه وأدقِّ تفاصيله وتتفاعل مع ما بات يستجدُّ من أحداث مقلقة ومتغيرات متناقضة تؤثر سلبًا على حياة النشء وثقافة المواطن وسلوكه اليومي، وباتت تحدِّيات الأمن في أبعاده الفكريَّة والنفسيَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة والجسديَّة والصحيَّة، والقِيَميَّة والأخلاقيَّة، والروحيَّة والدينيَّة، والذَّوق والسُّلوك العامِّ، وغيرها، محطَّات عمل تتطلب المهنيَّة في قراءة أبعادها، ودراسة تأثيراتها والظواهر الناتجة عنها والاختلالات المترتبة عليها والصورة الأخرى التي بات يتقمَّصها النشء في ظلِّ غياب الوازع وضياع الموجِّهات ونفوق القِيَم وسطحيَّة التفكير في أحايين أخرى، الأمْرُ الذي أدَّى بالكثير من الشَّباب وغيرهم إلى إيراد أنفسهم موارد الهلاك، وإقحامها في مطبَّات الاستهتار والانحراف الفكري، والانقياد لبراثن التغرير ومشوِّهات النموذج، بما تبثُّه قنوات التواصل والمروِّجين للفكر السلبي في عقل النشء من أفكار هدَّامة ومعلبَّات فكريَّة مسيئة، ومن جهة أخرى شكَّلت حالة الاستهتار والاندفاع وغوغائيَّة السلوك وأنانيَّة التفكير وما نتج عنها من ممارسات ومخاطر سلبيَّة على صحَّة الإنسان وأمنه وسلامته عاملًا آخر لا يقلُّ عن العوامل الفكريَّة والأيديولوجيَّة والثقافيَّة التي تبثُّها المنصَّات الإعلاميَّة ممَّا بات يتصدَّر المشهد العالمي، سواء ما يتعلق منها بالتشدد الديني أو التكفير، أو ما يشار إليه باسم الحريَّات كالمثليَّة والنسويَّة والإلحاد وغيرها من الأفكار التي باتت تدقُّ ناقوس الخطر وتُشكِّل تحدِّيًا قادمًا في نهضة المُجتمعات وبناء مواردها وتوجيه بوصلة مواطنيها في التزام منهج الولاء والانتماء، والهُوِيَّة والمواطنة، والثوابت والقِيَم والمبادئ التي باتت تتعرض لحملات تشويه ممنهجة، وإدخال مفاهيم المواطنة والحقوق والواجبات والانتماء في متاهة موازين الربح والخسارة والمصالح الشخصيَّة والحُريَّات المُطْلقة.
ومع القناعة بأنَّ التعاطي مع هذا الموضوع أكبر من احتوائه في صفحة هذا المقال، إلَّا أنَّه مدخل للتأكيد على أهمِّية البحث في إعادة نقل موضوع الأمن والسلامة الوقائيَّة للمواطن إلى المشهد التنفيذي المتدرِّج لرؤية عُمان 2040 وأجندة العمل الحكوميَّة وبرامج المؤسَّسات واهتمامات الأفراد ومنصَّات الإعلام، والتعاطي معه كونه قضيَّة وطنيَّة تهمُّ المُجتمع بكُلِّ أطيافه ومؤسَّساته، وليست حالة خاصَّة بمؤسَّسة أو قِطاع في ظلِّ مُحدِّدات الاختصاصات، ويتحتَّم على الجهد الوطني المبذول في هذا الصَّدد أن ينشدَ التكامليَّة والعُمق والاستدامة والتنوُّع، وأن يتَّخذ مسارات متعدِّدة على شكل المدخل المنظومي والتفاعل المؤسَّسي، ويتجنَّب المعالجات الجزئيَّة والتصنيفات الأحاديَّة، نظرًا لتشعُّب هذا الأمْر وتعقُده وخطورة تأثيره على حياة الفرد، فإنَّ من شأن هذا التفاعل والحوار أن يقفَ على محطَّات متنوِّعة، ويبتكر أساليب تتناغم مع طبيعة هذه التحوُّلات الحاصلة في قِيَم المُجتمع ذات الصلة بالأمن والسلامة الوقائيَّة، ونوعيَّة المعالجات التي تتناسب معها، والأُطر التي تُعيد هيكلتها لصالح البناء المتكامل والمتوازن للإنسان روحًا وفكرًا وجسدًا وذوقًا وأصالةً والتزامًا، لذلك اتَّخذت المسألة بُعدًا وطنيًّا وإقليميًّا وعالميًّا، وشكَّلت هاجسًا وطنيًّا لِما بات يترتب عليها من تأثيرات سلبيَّة على الأمن الاجتماعي في ظلِّ مؤشِّرات التباين في تصنيفات وأعداد الجرائم والجناة بسلطنة عُمان والتي باتت السلطنة كغيرها من الدوَل تدفع ضريبة نتائج التساهل أحيانًا في التعامل مع هذه الأبعاد أو تركيزها على مجال دُونَ آخر، أو حالة المعالجة غير المكتملة التي تؤثر سلبًا على نجاعة برامج التوعية والتثقيف والتعليم والتدريب والتَّوجيه والتصحيح والإعلام وعمل المؤسَّسات الإصلاحيَّة أو كذلك على جهود المؤسَّسات القضائيَّة والمحاكم المختصَّة في النظر في قضايا الأحداث والسُّجناء، وبالتالي جملة الممكنات والمهارات والفرص التي ينبغي أن تتاح للمواطن منذ نعومة أظافره في تقوية أبعاد الأمن والسلامة الوقائيَّة الشخصيَّة والعامَّة، بحيث تقوم السُّلطات الثلاث التنفيذيَّة والقضائيَّة والتشريعيَّة والقِطاعات الداخلة فيها بِدَوْرها في رسم معالم الصورة الكبرى في التعاطي مع هذا الملف في مختلف مراحل العمل، القبليَّة والبُعديَّة، وطرحها على مختلف الأصعدة الوطنيَّة والإقليميَّة والدوليَّة للخروج بموجّهات أكثر ابتكاريَّة وتقنينًا ومهنيَّة واحترافيَّة، بحيث تتجاوز المسألة جهة بعَيْنِها، لتُسهمَ كُلُّ مؤسَّسات الدولة ومنظوماتها المعنيَّة بالأمن والسلامة الوقائيَّة بِدَوْرِها في المساهمة في إدارة واقع برامج الأمن والسلامة الوقائيَّة.
على أنَّ شيوع المعرفة وسرعة انتقالها بَيْنَ البَشر، وزوال الحدود والعوائق التي كانت تقف عثرة في اتِّساع نشر المعلومات، وما وفَّرته بِدَوْرها منصَّات التواصل الاجتماعي والتقنيَّات الحديثة والعوالم الافتراضيَّة الكونيَّة من فرص أكبر في تعزيز البنية المعرفيَّة لدى المواطن حَوْلَ مفاهيم الأمن والسلامة والصحَّة النفسيَّة والجسديَّة، وقدَّمت له جرعات ومعلومات مُفيدة يُمكِن من خلالها تكوين مسار واضح لدَيْه يَقِيه من المخاطر المترتِّبة على التراكمات التي باتت تروِّج لها القنوات الإعلاميَّة والمنصَّات الاجتماعيَّة، وجرعات توجيهيَّة وتثقيفيَّة من خلال قراءاته حَوْلَ ما يتداول من معلومات في قضايا تتعلَّق بـ: الابتزاز الإلكتروني والاحتيال الرَّقمي والمحافظ والحسابات الوهميَّة والعروض الترويجيَّة والتسويقيَّة والإعلانات المضلِّلة التي تستهدف التحايل على الفرد بأفكار واهية ومعلومات كاذبة وتوهمه بتحقيق إنجازات أو الحصول على مبالغ واستثمارات كبيرة، وهو أمر لا يُعذر أحد اليوم من التعمق فيه، وسؤال المختصِّين في المجال. إلَّا أنَّ التشدُّد الفكري والتنميط المعلوماتي وفجوة المصداقيَّة في أكثرها وتدخلات البَشر بعموميَّتهم في ملء هذه السلَّة الفارغة بالمعلومات وأشكال التعبير المختلفة دُونَ مراعاة لموازين القوَّة في التقييم ومعايير الذَّوق في الاختيار وتحديد مصادر هذه المعلومات، وما تحمله لغة الخِطاب والتواصل من حجم التهويل في الموقف أو الاختزال في لغة الوصف الإيجابيَّة أو التوسُّع في طريقة السَّرد للحالة بطريقة قد تتباعد عن الواقع ولا تجسِّد الحقيقة الناصعة، لتتفاعل هذه الموجِّهات في كومة تراكميَّة في ذهن المخاطب بها أو من تصل إليه لتزيد من شحنة السلبيَّة لدَيْه وتنغِّص حياته برفع درجة القلق والخوف من المستقبل والتفكير في متطلَّبات العيش، لتنتزع منه حالة الاستقرار النَّفْسي؛ وترسم علامات الحزن والألم والصراعات الداخليَّة والتشويش الفكري الذي يؤثر سلبًا على استعداداته وصلابته في مواجهة التحدِّيات، وفي ظلِّ ما أوجدته من فقدان طردي للمناعة النفسيَّة في التكيُّف مع المستجدَّات، ليتَّجه عمل هذا الإطار الوطني المقترح إلى أبعد من معالجة مشكلات الشَّباب الفكريَّة والنفسيَّة والمزاجيَّة وغيرها إلى تسليح الفرد المواطن في مختلف مراحله العمريَّة والدراسيَّة بالفكر السَّليم والمبادئ الراقية التي تضمن عدم الإساءة إلى نفسه ومُجتمعه، وفي الوقت نفسه يبقى في مستوى من الوعي بخطورة الانقياد للمعلَّبات الفكريَّة والإشاعات وسرعة تداول الأحكام أو التصرفات الحاصلة من الأفراد من الواقع المعايش أو العالم الافتراضي، فيكون على بَيِّنة من أمره في امتلاك حسِّ الاختيار وحُسن الانتقاء لمصادر المعرفة التي تتيح له الوصول إلى معلومات سليمة وحقائق مجرَّبة وثوابت عميقة وموجِّهات تصنع فيه دافع المواجهة ليكونَ له منهجه الصائب في قراءة الواقع وضبط مصادرة لمزيد من طرح البدائل والاستثمار في الفرص وإنتاج حلول مقنعة لواقعه.
من هنا يأتي التأكيد على أهمِّية إدارة سياسات الأمن والسلامة الوقائيَّة وفق مسارات ترتكز على جملة المعطيات والمُكوِّنات، مستفيدة من التحدِّيات والفرص التي ارتبطت بسلوك الفرد الاجتماعي وتحديثاته المستمرَّة، لتقرأ في برامج الإعلام التقليدي والرَّقمي، وخطط المؤسَّسات وشراكاتها مساحة أوسع للتكامل والمهنيَّة والاحترافيَّة، ونمطًا فريدًا يستوجب امتلاك المواطن الأدوات والآليات وأُطر العمل المُتجدِّدة التي تتكيف مع التغيُّرات الحاصلة في الأساليب والبرامج، وأن تلتزم الأخيرة معايير الحوكمة والاستدامة والتنوُّع والواقعيَّة والحدس بالتوقُّعات لضمان قدرتها على الدخول في فِقه المواطن وتفاعله معها؛ فإنَّ ما يشير له واقع الشَّباب ومختلف فئات المُجتمع في ظلِّ ممارسات وتوجُّهات غير مسؤولة انفصلت عن القِيَم وارتطمت بالهُوِيَّة، وأضرَّت بالإنسان عقله وجسمه وسمعه وبصره ومُجتمعه وأُمَّته وولائه وانتمائه، يؤسِّس اليوم لبناء سياسات وطنيَّة تنمويَّة أكثر نضجًا واستدامة وتنوُّعًا في تجسيد مفاهيم الأمن والسلامة الوقائيَّة في حياة المُجتمع، وتبقى كفاءة هذه السياسات في مستوى تقبُّله واستيعابه لبرامج التوعية وفهمه لمنطلقاتها، وإدراكه لِما يُحقق له ولأُسرته ولمُجتمعه الأمن والأمان، بما من شأنه نقل عمليَّة التوعية إلى مرحلة تفاعل نوعي، يعي فيها الفرد مسؤوليَّاته ويدرك حدوده وواجباته، ويقتنع بالتغيير في داخله، ويبني في ظلِّ هذه الممكنات التي توفرها مؤسَّسات الدولة المختلفة الإعلاميَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والثقافيَّة والتعليميَّة والدينيَّة ومؤسَّسات التشغيل والعمل والترفيه والاستثمار في المورد البَشري، نموذجًا رائدًا في ترسيخ القِيَمة المضافة الناتجة عن إعادة ضبط هذا المسار وإنتاجه، وهندسة عمليَّات إدارة برامج التوعية وإثبات حضورها في أبجديَّات تنفيذ أولويَّات الرؤية للوصول إلى نتائج أكثر استدامة، وأعمق أثرًا، والخروج من حالة الإغراق المعرفي وموجة التناقضات والتباينات الفكريَّة في المنصَّات الاجتماعيَّة التي باتت تنتزع منه خصوصيَّاته وقناعاته وثوابته وهُوِيَّته، كما تنتزع منه أمنه وأمانه، وصحَّته الجسديَّة والنفسيَّة والفكريَّة.


د.رجب بن علي العويسي
[email protected]