كلَّما تخاصم نظامان عربيان على أتفه الأسباب، وشرَعا في توجيه أسلحتهما الإعلاميَّة للنَّيل من بعضهما البعض، وترسيخ ثقافة التشهير والتظليل ونشر الأكاذيب وتبادل الاتِّهامات وتعميق العداوة إلى درجات تصل أحيانًا حدَّ المقاطعة الاقتصاديَّة وإلحاق الضَّرر بالمُجتمعات والأوطان، أو الاعتداء العسكري والتراشق بالأسلحة وتجاوز المعايير والقِيَم الإنسانيَّة المتعارف عليها حَوْلَ السَّلام وتحريم الاعتداء والعدل وحُسن الجوار، وتبادل المصالح وتعميق المشترك، وتحقيق تطلعات المواطن ورفاهيَّته… ـ وما أكثر الخصومات والصراعات والحروب العربيَّة العربيَّة ـ والتدخل المستمر في الشؤون الداخليَّة لكُلِّ دولة، وتمويل ودعم وتحفيز فصيل أو طائفة أو فئة في دولة ما، تعاني من مشكلة أو خلاف مع النظام للانقلاب عليه وتأزيم الأوضاع وإحداث هزَّات وحالة عنف وفوضى تعيق الأمن والاستقرار نكاية وبغضًا، والتآمر والاستعانة بأطراف وقوى عالميَّة وإقليميَّة، وتعزيز وجودهم في بلداننا وإشراكهم في مستقبلنا وسياساتنا وتمكينهم من الهيمنة علينا… وهي من الخصائص والسِّمات والتصرفات والأفعال التي ابتُلينا بها وباتت لصيقة ومرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالسياسة العربيَّة، وبالأخص خلال العقود الخمسة أو الستة المنصرمة، قادت إلى تأزُّمات وانتكاسات وخسائر جسيمة في الأرواح والممتلكات والبنى التحتيَّة، ودمَّرت إرثنا الحضاري وأتَتْ على الكثير من المعالم والثروات، وفتَّت الأساسات والدعامات والعناصر التي تجمعنا وتقوِّي روابطنا وتعظِّم المشتركات بَيْنَنا، وأُحبطت مبادرات ومشاريع وجهود كبيرة في سبيل وحدة الأُمَّة وتحقيق نهضتها الحديثة ومحاولة لحاقها بالركب الحضاري والسَّير في طريق التقدُّم والعصرنة، وكانت سببًا رئيسًا للتخلُّف والجهل والفقر والفرقة والانهيار الذي أصاب الأُمَّة العربيَّة، وأعاقها عن الحداثة والبناء المعرفي ـ كلَّما تخاصم نظامان عربيان ـ حشرت الشعوب العربيَّة نَفْسها في هذه الصراعات وأدخلت أنفها بقوَّة وحماسة واشتغلت بها حتى الثمالة، وانقسمت فيما بَيْنَها فسطاطيْنِ، وحشدت قوَّتها وجهدها ووقتها وتفكيرها في تأييد هذا النظام السياسي ودعمه والدفاع عنه، ونقد وشتم وسحب التأييد عن الآخر وتخطئته في فريقيْنِ متخاصمَيْنِ يبثُّان الفرقة ويهيجان الصراع وينثران السموم ويقذفان بكُلِّ الأسلحة الهجوميَّة الكلاميَّة دُونَ رادع ولا تقدير، ولا احترام للقِيَم والأعراف ووشائج القربى والأخوَّة، مستخدمين وسائل التواصل ومستثمرين الفضاء الإلكتروني لإشعال الحروب، وتعميق الانقسام. ولا أقصد بالطبع المُجتمعات العربيَّة التي تنتمي إلى هذا النظام أو ذاك، أي المتصارعين فيما بَيْنَهما، فقد نتفهم وقوف وتأييد مُجتمع ما، لنظامه ووطنه بدافع الغيرة والتجييش الإعلامي والضغط السياسي والنَّفْسي والاجتماعي، وإنَّما تلك المنتمية إلى بلدان ودوَل عربيَّة خارج نطاق هذا الصراع، وكأنَّها طرف أساسي فيه، وليس العامَّة فقط هم من يتوغَّل في هذا المعترك، فنعذرهم، ولكن من نقصدهم بالدَّرجة الأولى هم النخبة من العلماء والمثقفين والمفكِّرين والأكاديميين والإعلاميين والكُتَّاب ومَن في حُكمهم، الذين يتراشقون بالكلام وقصائد الهجاء ويتعصبون لهذا الطرف أو ذاك، ويشرِّقون ويغرِّبون في توزيع الاتِّهامات وقذف عبارات التخوين والتكفير والشَّتم والإدانة، أو توزيع صكوك الغفران والبراءة في سلوك شائك وخطر يعمِّق الفرقة والفتنة والكراهية والأحقاد، ويقلِّل في الوقت ذاته من قِيمة هذه النخبة بالتعويل عليها في الإسهام في الدعوة إلى تعزيز المشترك، وترسيخ قِيَم الحوار والتفاهم والسلام ونبذ الخلافات ومحاولة رأب الصدع ومعالجة أسباب الفتور والمشاحنات والخصومات بَيْنَ الأنظمة العربيَّة… فما الذي يدعو الشعوب وفي مقدِّمتهم نخبة المثقفين والعلماء إلى الدخول والاقتحام بهذا العنف والزخم في ساحات صراع الأنظمة المتقاتلة فيما بَيْنَها؟ وما المنافع والغايات من ذلك؟ هل هي سِمة وخصِّيصة عربيَّة تؤكِّد وتشير وتُعبِّر عن حقيقة تاريخيَّة بأنَّ العربي لا يطيق الحياة ولا يستطيع العيش فيها ولا يحسُّ بالسعادة إلَّا إذا كان طرفًا في صراع، شريطة أن يكُونَ بَيْنَ الإخوة الذين تربطهم قواسم مشتركة عديدة؟ لماذا تشعر الأكثريَّة من الشعوب بشيء من البهجة والفرح وهي تُعيد وتنشر الأخبار الصادقة أو الكاذبة عن الخصومات والصراعات والمقاطعات العربيَّة المُتجدِّدة؟ هل الأنظمة العربيَّة تُمثِّلنا ونحن من اخترناها عَبْرَ صناديق الاقتراع لكَيْ نشحذ سيوف ألسنتنا وأقلامنا وعقولنا للدفاع عن هذا أو ذاك؟ هل تتصارع هذه الأنظمة من أجل تحقيق مصالحنا ومصالح أوطاننا؟ أم للدفاع عن منافعها وكراسيها وغرورًا وتكبرًا وغيرة من بعضها البعض، أو قد يكون انصياعًا وتحقيقًا لسياسات وأوامر من قِبل أعداء هذه الأُمَّة؟ ألَا نعي بأنَّ أعداء اليوم، هم حلفاء الغد، وقائمة الخصوم والصداقات تتغير في عالمنا العربي كقطع الشطرنج في مسلسل تمزج قصَّته بَيْنَ الدراما والعنف والكوميديا والرعب، وطاحونة هذه الصراعات وتحوُّلاتها المتسارعة هي التي طحنت أحلام وتطلُّعات الشعوب وأملها في مستقبل مشرق مزدهر تتحقق فيه الوحدة والعمل المشترك ومعهما القوَّة والرفاهية والرخاء؟ ألَمْ ندرك بأنَّ هذه الأنظمة سرعان ما تتصالح فيما بَيْنَها بمجرَّد ما تتلاشى وتذوب أسباب عداواتها الشخصيَّة، التي لا رابط بَيْنَها وبَيْنَ مصالح الأوطان والشعوب، وبدُونِ استيعاب للدروس وتفسير لأسباب الخصومة؟ وكما قال الأستاذ مرتضى بن حسن بن علي صاحب كتاب «جدليَّة الذات بَيْنَ الفكر والواقع»، بأنَّ العرب عندما يتصالحون لا «يذهبون إلى أصول المشاكل التي فجَّرت الصراع أو تشخيصها وإيجاد الحلول لها، بل تحاول اتباع بعض من العادات التي عفا عليها الزمن، مِثل اتباع سياسات «حب الخشوم» و»تبويس اللحى» وترديد عبارات مِثل «عفا الله عمَّا سلف» التي ربَّما كانت ناجحة سابقًا في المُجتمعات البدويَّة لحلِّ مشاكل قبليَّة أو أُسريَّة أو في معالجة قضايا الزواج والطلاق، غير أنَّها لا تصلح في عالمنا المعقَّد المُركَّب المعاصر، كُلُّ ذلك يدلُّ على عُمق أزمتنا الثقافيَّة، وكم هي غير منجزة، وأنَّنا نعيش الماضي بأفكارنا وتقاليدنا وأعرافنا وعقولنا ونعيش الحاضر بأجسادنا…». لقد تابعنا الكثير من الشخصيَّات التي أدخلت نفسها وزجَّت باسمها وأسهمت في تأجيج نار الفتنة والقطيعة في هذه الصراعات وكأنَّها طرف أساس أو ذات مصلحة عظيمة فيه، وكأنَّ الخصومات دائمة مستمرَّة، وسرعان ما شعرت بالخجل والانكسار والخذلان والعار بعدما عادت المياه إلى مجاريها وتصالح النظامان وكأنَّ شيئًا لَمْ يكُنْ، والبعض سرعان ما تتغيَّر توجُّهاته وتصريحاته وكتاباته وأفكاره، تجاوبًا مع التحوُّل الجديد، كافرين بقناعاتهم وقصائدهم وملاحمهم الهجائيَّة السابقة… وتابعنا تندُّر الجمهور وسخريَّته وتعليقاته اللاذعة وهو يتداول مقاطع ومقالات وصور ذات الشخص بوجهَيْه، مقارنًا بَيْنَ ما كان يقوله وما أصبح يردده ويتحدث به، وبَيْنَهما ما بَيْنَ الليل والنهار، فيا سبحان الله ما الداعي إلى ذلك؟ هل التملُّق والتزلُّف وتحقيق مصالح آنية؟ أم العواطف والأهواء وقصر النظر وضحالة الفكر والعقل؟ أم ضعف في الاستيعاب واستلهام الدروس؟ أو خصِّيصة عربيَّة ابتُلي بها فكرنا وثقافتنا؟ أم شيء آخر يحتاج إلى تحليل وتشخيص علمي ودراسات وأبحاث متخصِّصة؟
سعود بن علي الحارثي
Saud2002h@hotmail.com