[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/khamis.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]خميس التوبي[/author]
كالعادة يفرض الميدان إحداثياته السياسية، سواء في سوريا أو العراق، حيث لا تتحرك قوافل السياسيين وتنطلق حناجرهم إلا وفق مقتضيات ما يفرضه الميدان من إحداثيات، وكلما ضاقت بهم وبإرهابهم الأرض بما رحبت، ومالت كفة الميدان لأصحاب الأرض والحق، زادت وتيرة حركة قوافل السياسيين وارتفعت نبرة تصريحاتهم، في دلالة واضحة على أن الإرهاب غدا لازمًا من لوازم الممارسة السياسية لدى أصحاب المشاريع الاستعمارية في المنطقة.
اليوم الواقع الميداني في سوريا والعراق وتقدم الجيشين السوري والعراقي على صعيد تطهير المدن والقرى السورية والعراقية من الإرهاب وعصاباته، يفرز حالة الحرد التي أصابت المستثمرين في الإرهاب جراء النكسات التي تُمْنَى بها كل يوم العصابات الإرهابية، ما يهدد بنسف مشروع إعادة رسم خريطة المنطقة وتعديل اتفاقية الحدود التي رسمها الاستعماران البريطاني والفرنسي والمعروفة باسم "سايكس ـ بيكو"، وبالتالي انهيار معبد الأحلام على رؤوس المستعمرين القدامى والجدد من الغرب والصهاينة والإقليميين الذين سخروا بعض الخدم والعملاء المحسوبين على العروبة والإسلام لرفع أعمدة معبدهم.
وفي المشهدين السوري والعراقي تطل مدينتا حلب والموصل كركيزتين من ركائز الخريطة الجديدة التي يجري رسمها بمعاونة من بعض العرب، ولتكون هاتان المدينتان محط الأطماع الاستعمارية والمنطلق الحقيقي لإعادة تقسيم المنطق ورسم حدودها، وقد بدا ذلك من خلال التدخلات الواضحة من أجل عرقلة تقدم الجيشين السوري والعراقي في المدينتين، وإبداء "الزعرنة" من القوى المشكلة لمعسكر التآمر والعدوان. فالمنطلقون من إرث أجدادهم الاستعماري لم يخفوا توجههم هذا لحظة، بل لا يزالون يشتغلون عليه بدعم الإرهاب وتنمية عصاباته وتغذيتها بالمال والسلاح وببيع النفط العراقي والسوري لصالح هذه العصابات الإرهابية، لأنها في تصورهم هي القادرة على تحقيق أحلامهم باستعادة إرث أجدادهم الذين اغتصبوه من أصحابه الشرعيين في حقب استكانت فيها المنطقة للاستعمار، ولذلك فهم يرون في الموصل وجوارها من كركوك ودهوك والسليمانية وأربيل، وفي حلب وما جاورها من الحسكة والقامشلي والرقة ودير الزور هو الإرث والامتداد الطبيعي لامبراطورية استعمارية أصابتها أفعالها الشنيعة بالتعرية فتبخرت مع الزمن، من إبادة لأقوام وطوائف، وتحالفات سرية وعلنية مع الصهيونية وتسليم أراضٍ ومقدسات في فلسطين المحتلة للصهاينة.
وإذا كان الإيعاز إلى ستيفان دي ميستورا مبعوث الأمم المتحدة إلى سوريا للتحرك باتجاه منع تقدم الجيش العربي السوري في مدينة حلب بطرح مبادرته الشهيرة "تجميد القتال"، وكذلك إرسال طوابير من الإرهابيين والمرتزقة والتكفيريين بقيادة ضباط وجنود إحدى الدول المشكلة لمعسكر التآمر والعدوان على سوريا لإحباط تقدم الجيش العربي السوري في حلب وعدم إعطائه الفرصة لفرض واقع ميداني يطيح بالأحلام الاستعمارية، فإن مدينة الموصل أيضًا هي الأخرى تشكل مركز اهتمام غير مسبوق خاصة بعد التصريحات العراقية الرسمية عن استعداد الحكومة العراقية لاستعادة الموصل وتطهيرها من دنس الإرهاب، وهو اهتمام لا هدف له سوى معرفة توقيت بدء العملية العسكرية لاتخاذ ما يلزم من قبل المتآمرين لمنع عودة المدينة إلى حضن الدولة العراقية، وإفشال الجهود العسكرية العراقية، ويمكن رصد حقيقة هذا الهدف من خلال:
أولًا: إعلان المسؤولين العسكريين الأميركيين عن رغبة بلادهم في شن معركة تحرير الموصل في أبريل ومايو القادمين، حيث يفترض أن موعد شن العملية العسكرية من الأسرار العسكرية التي يجب أن تكون بحوزة عدد محدود من القادة وتحاط بالسرية التامة. ولا ريب أن الهدف هو إرسال رسالة تحذير إلى "داعش" المتحصن في مدينة الموصل للاستعداد لهذه المعركة خاصة وأن الطائرات الأميركية وغير الأميركية قائمة بدورها على أكمل وجه في إلقاء أطنان السلاح والغذاء والدواء وكل ما يتطلبه صمود عناصر "داعش" لإبقاء سيطرتهم على المدينة، وهو ما لاقى انتقادات عراقية رسمية واسعة لإفشاء ما يعد من الأسرار العسكرية التي يجب أن لا تفشى.
ثانيًا: الزيارات المكوكية (التجسسية) المتكررة للمسؤولين الأمنيين والدفاعيين والسياسيين الغربيين والإقليميين إلى العراق، حيث كثرت هذه الرحلات بعد الإعلان عن استعداد بغداد لتحرير الموصل من أيدي "داعش" الإرهابي، وقد حاول بعضهم اتباع أساليب المداهنة والاستمالة كإعلان الدعم "اللفظي" للحكومة العراقية وأن من واجبها تحرير المدينة من الإرهاب، وكإعلان الدعم "العسكري" بشحنة من البنادق والذخيرة. والهدف من ذلك أحد أمرين أو كلاهما وهما: إما لمحاولة معرفة موعد بدء العملية العسكرية من جهة ضرورة التنسيق لتقديم الدعم لـ"داعش"، وإما للتحسب لنتائج ما بعد معركة الموصل وبدء زوال ظاهرة "داعش" الإرهابية.
ولذلك يبدو في هذا السياق، ما أقدم عليه "داعش" من هدم لمتحف الموصل ثم تجريف مدينة النمرود بالمدينة اللذين اعتبرتهما اليونسكو جريمة حرب، هو محاولة للتعجيل بالعملية العسكرية في الموصل وبهدف تشتيت الجهود العسكرية القائمة في صلاح الدين وفي تكريت تحديدًا.
وفي تقديري، أن محاولات سلخ الموصل وحلب وجوارهما لن تتوقف، وستمضي عملية الاستثمار في الإرهاب ودعم عصاباته لأجل استنزاف سوريا والعراق وحلفائهما، وستمضي وسائل اختلاق الذرائع والمبررات للتدخل بما يؤدي إلى تقسيم الدولتين المستهدفتين، وما إعلان أنقرة عن أن عبدالله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني دعا أنصاره إلى إلقاء السلاح تمهيدا للانضمام إلى عملية سلام تهدف إلى إنهاء قتال دام ثلاثين عامًا لإقامة دولة كردية، وما تبني مجلس الأمن الدولي قرارًا يدين استخدام الكلور كسلاح كيماوي في سوريا، إلا إرهاصات لما هو قادم ومبيت ضد كل سوريا والعراق، إذ من شأن الدولة الكردية الممتدة من شمال العراق (بدءًا من الموصل) إلى جنوب تركيا وحتى شمال سوريا أن تكون تحت الرعاية التركية، وبالتالي كل ما تختزنه هذه المساحة الشاسعة من حقول نفط وغاز تحت الإشراف التركي، وكذلك من شأن قرار مجلس الأمن الدولي أن يشجع المتآمرين وأدواتهم على استخدام الكلور وغيره؛ أي إعادة استخدام السلاح الكيماوي ضد المدنيين السوريين وعناصر الجيش العربي السوري، كما فعلوه من قبل في خان العسل وجوبر، وذلك لتبرير تدخلهم العسكري ضد سوريا. لكن يبقى نجاح أو فشل كل هذه الرهانات مرتبطًا بالذكاء والقدرة السياسيين والعسكريين لكل من سوريا والعراق.