أخي القارئ الكريم: الرجوع إلى الله بعد البعث لا شـك فيه، قال الله تعالى (الذين إذا أصابتهـم مصـيبة قالـوا: إنا لله وإنا إليه راجعـون) سـورة البقـرة 156، فـمنه المـبـدأ وإليه الرجـعى ، قال تعالى (ذلك يـوم الوعيد)، هـذا هـو اليـوم الـذي هـو اليـوم الموعـود، الـذي يتحـقـق فـيه وعـيـد الله تعـالى عـمليا، والـوعـيـد يستعـمـل في الشـر غـالبا، لأن الإنـسان يـؤثـر فـيه الإنـذار والـعـقـاب أكـثر ممـا يـؤثـر فـيه الـوعـد، الـذي يستعـمـل للـبشـارة والـرغـبة في الثـواب .
ولأجـل ذلـك كـثر في القـرآن الكـريـم ذكـر الإنـذار، وذكـر الـوعـيـد أكـثر من ذكـر البشارة والـوعـد، قال الله تعالى : {ذلك يـوم الـوعـيـد}الـذي كـذب به المبطـلـون الكـفـرة ابـتـداء من الـذين ينـكـرون وجـود الله ، إلى الـذين ينـكـرون البعـث، ولـو أنهـم يـؤمنـون بـوجـود الله تعالى، وأنه الخالق الـرازق، لعـلمـوا أن ذلك حـق لا مـرية فـيه، وإن يـوم الصعـق يـوم مـوعـود شـديـد، يـوم عـبـوس قـمـطـريـر، إذ وصفه الله تعالى بأوصاف مـذهـلة في الـقـرآن الكـريم، قال الله تعالى : {يا أيها الناس اتقـوا ربـكـم إن زلـزلة الساعـة شيء عـظـيـم يـوم تـرونها تـذهـل كل مـرضـعـة عـما أرضـعـت، وتضـع كل ذات حـمـل حـمـلها، وتـرى الناس سـكـارى وما هـم بـسكـارى، ولكـن عـذاب الله شـديـد} سـورة الحـج 1/2، يـوم تـزلـزل فـيه القـلـوب، ويـوم يجـمع فـيه الخـلـق أولهـم وآخـرهـم، إنسهـم وجـنهـم .
قال الله تعالى: {وجاءت كل نفـس معها سـائق وشـهـيـد }سورة ( ق ) 21، السائق مـعـروف وهـو الـذي يـسوق الشيء، فـكل واحـد له سـائق يسـوقه، إلى حـيث يـريـد الله تعالى أن يـقـف للحساب، ثم يسوقه بعـد ذلك إلى مـقـره ومـثـواه، إما إلى جـنة عـرضـها السماوات والأرض، في نعـيم مـقـيم ، وإما إلى نار السـعـير وبئس المصـير.
ولـقـد ذكـر السـوق في آيات من القـرآن الكـريم، منها قـوله تعـالى: {يـوم نحـشر المـتقـين إلى الـرحـمن وفـدا، ونسـوق المجـرمـين إلى جهـنم وردا} سـورة مـريم 85/86 ، عـبر الله تعالى بالحـشر بالنسبة للمـؤمنين، وبالسـوق بالنسبة للـكافـرين ، ولا يسـتـعـمـل الـوفـد إلا لـجـماعة مـن كـبار القـوم وأعـيانهـم، يـتـلـقـون بالتـكـريم والتبجـيـل، كما كان المسلمـون في الصـدر الأول زمـن النبي صلى الله عـليه وسـلم بـعـد انتشار الإسـلام، يـفـدون عـلى رسـول الله صلى الله عـليه وسـلم ، حـتى سـميت تلك السنة (بسنة الـوفـود)، إذ كلما جـاءه وفـد مـن وفـودهـم، أكـرمه صـلى الله عـليه وسـلم، وبطـبيـعـة الحال لا تـكـون الـوفـود من عـامـة الناس، وإنما يخـتارون من ذوي الـوجـاهـة والـفـصاحـة، خـطـباء وشـعـراء ، وجهـاء وحـكماء، وكـذلك قال تعالى عـن جـماعـة المـؤمنـين إذا ذهـبـوا إلى ربهـم: {يـوم نحـشر المـتـقـين إلى الرحـمن وفــدا}، وكلمة (وفــد) كافـية لـتـدل عـلى أنهـم في هـيئة حـسنة يكـرمـون بالـترحاب، ويـتـلـقـون بالقـبـول، أما المجـرمـون فـقـد قال الله فـيهـم : { ونسـوق المجـرمين إلى جهـنم وردا}، عـطاشـا من حـر المـوقـف الـذي كانـوا فـيه، وهـول المصـير الـذي يـنتظـرهـم .
كما عــبر بالسـوق في قـوله تعالى : {وسـيـق الـذين كـفـروا إلى جهـنـم زمـرا}سـورة الـزمـر71، والـزمـر جـمع زمـرة وهي الجـماعـة، أي يـساقـون جـماعات ، جـماعـة إثـر جـماعة، كما استعـمـل السـوق بالنسبة للمـتقـين في قـوله تعالى: {وسـيـق الـذي اتـقـوا ربهـم إلى الجـنة زمـرا}سـورة الـزمر 73 ، وليس في هـذا التعـبير بالسـوق أو بالـزمـر إهانة للمـؤمنين، لأن المـلائـكـة هـم الـذين يحـشرون المـؤمنين، ويحـفـون بهـم عـن اليمين وعـن الشمال وفـدا إلى الـرحـمن.
إن التعبير بالحـشر فـيه معـنى السوق، إلا أن سوق الكـفار يكـون بالضـغـط والشـدة بـدليـل قـوله تعالى: {يـوم يـدعـون إلى نار جهـنـم دعـا}سورة الطـور 13 والـدع هـو الـدفـع الشـديـد بـقـوة، لأن جهـنـم تـواجـه الكـفار بحـرها، ويسـمعـون لها تغـيظـا وزفــيرا مـن بعـيـد ولا يـريـدون دخـولها، ولـكـن المـلائـكة من ورائهـم يـدفـعـونهـم بمقامـع من حـديـد حـتى يقـذفـوهـم في جـهـنم، أما سـوق المـؤمنين إلى الجـنة فـهـو حـشـر تكـريـم ، ولـو أنـه عـبر عـنه بالسـوق، لأن المـلائكـة يحـفــونهـم مـن كل جهـة تشـريفا وتكـريما إلى أن يوصـلـوهـم إلى الجـنة، بهـذا نفهـم معـنى قـوله تعالى : { وجـاءت كل نفـس معـها سـائـق وشـهـيـد }، كل نفـس سـواء أكانت نفـسا مـؤمنة، أم نفـسا كافـرة، إلا أن السوق يخـتـلـف هـذا سـوق رفـق، وذاك سـوق ذل وإهـانـة وتحـقـير .
تـرى هـل يعـني قـوله تعالى: { سـائق وشـهـيـد }أن هـناك مـلكـين: أحـدهـما سـائق والآخـر شـهـيـد؟ أم هـو ملك واحـد هـو السائق وهـو الشـهـيـد ؟ هـذا ما قاله البعـض المفسـرين، ولـكـن يـبـدو أن السائق غـير الشـهـيـد .
أمـا الشاهـد فـيراد بهـما الملكـان اللـذان كانا يكـتبان عـمـل العـبـد في الـدنيا، فهـما الشاهـدان، والسـائق غـيرهـما، والعـلـم الحـقـيـقي عـنـد الله، وكل ما أخـبرنا به الله أن كل نفـس يأتي معها سـائق وشـهـيـد، سـائق يسوقها إلى المحـشـر، وشـهـيـد يشـهـد عـليها، وأولى من يشـهـد عـليها الحـفظـة الكـرام، الـذين كـتبـوا أعـمالها في الـدنيا ، والـذين قال الله فـيهـم : {إذ يتـلـقى المتـلـقـيان عـن اليميـن وعـن الشـمال قـعـيـد ما يلـفـظ من قـول إلا لـديه رقـيب عـتـيـد} سورة ( ق ) 17/18 0
ولـكـن لا فـائـدة في أن نعـرف من هـو هـذا الملك، أهـو الـذي كان يكـتب الأعـمال في الـدنيا أم غـيره، أو نعـرف اسـم السائق من هـو، إذن : لا يـزيـدنا عـلمنا بهـذا شـيئا أبـدا، ولا ينقـصنا جهـلنا بهـذا شـيئا مطـلقا ؛ لأنه ليس له تأثـير عـلى إيماننا ولا عـلى أعـمالنا .
قال تعالى : {لقد كنت في غـفـلة من هـذا فـكـشـفـنا عـنـك غطاءك فبصرك اليوم حديد } سـورة ( ق ) 22 . يـبـدو أنه بـداية من هـذه الآيـة يكـون الخـطاب خاصا للـكافـر، فـبعـد أن كان قـبـل ذلك الخـطاب عـاما في قـوله تعالى : {وجـاءت كل نفـس معها سـائق وشـهـيـد}، كل نفـس مكـلفة كافـرة أو مـؤمنـة، ثـم ينـتقـل إلى الكـفـرة المـكـذبين الـذين ماتـوا وهـم كـفار مهـما اخـتلـفـت درجـاتهـم، مـن المـشـرك الكـافـر بالله الـذي أنـكـر وجـود الله تعالى ، إلى الـذي اعـتـرف بوجـوده وأشـرك به غـيره، إلى من زعـم أنه آمن به ولكـنه عـصاه، ومات مصـرا عـلى معـصيته ، كما قال الله تعالى ( وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) سـورة النساء 18 0
لأن الـتـوبة لا تنفـع وقـت المعـاينة ، كما قال الله تعالى
( هـل ينـظـرون إلا أن تأتيهـم المـلائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعـض آيات ربـك، يـوم يأتي بعـض آيات ربـك لا ينـفـع نفـسا إيمانها لم تكـن آمنـت مـن قـبل أو كسـبت في إيمانها خـيرا قـل انتظـروا إنا منتظـرون ) سـورة الأنعام 158 .
وللحـديث بقـية إن شـاء الله نـواصله في حـلقة قـادمة..

محمد بن ناصر الزيدي