على سابقات السِّنين، عندما كُنَّا صِبية، لَمْ نكُنْ نحتاج لسوى عدم الالتحاق بمائدة العشاء كَيْ نعبِّرَ عن «زعلنا» أو عن شكوانا من أيِّ شيء، إذ كان المرحوم والدي يفتقد كُلَّ ابن أو بنت من أبنائه إذا لَمْ يحضر أو تحضر لمائدة العشاء التي كانت تجمعنا كافَّة (كأُسرة). لذا، تراه يسأل: «أين فلانة أو فلان؟» إذا لَمْ يحضر أحدهما إلى مائدة العشاء. وكأنَّ تناول العشاء معًا (صغارًا وكبارًا) كان طقسًا عائليًّا لا يُمكِن إغفاله أو تجاهله من قِبَل ربِّ وربَّة الأُسرة، كما هي عليه الحال بالنسبة لباقي أبناء الأُسرة الواحدة.
وكان ذلك «الطقس» يجسِّد وشيجة العائلة الواحدة الحقَّة التي لا تسمح لنفسها بالتفكُّك قط. هذه ظاهرة لَمْ أزَلْ أستذكرُها، كما هي الحال مع آخرين، بل وأستذكرُها بالكثير من العواطف الجيَّاشة، فقَدْ كانت رمزًا للأُسرة الواحدة أن نتشاركَ بذات الصحون والأطباق. ولكن هذا التشارك ما لبث أن فقَدَ لذَّاته مع تفكُّك الأُسَر حديثًا على الطريقة الغربيَّة، لبالغ الأسف!
ربَّما كانت طبيعة الحياة الحديثة وتنوُّع التزامات أبناء الأُسرة الواحدة وراء غياب أو تغييب تقاليد وحدة العائلة والمائدة الواحدة، تلك التقاليد التي جسَّدها اجتماع الكُلِّ على مائدة الغداء أو العشاء كُلَّ يوم: فكان هذا الاجتماع أشْبَه بمجلس عائلي يومي تُذكَر خلاله جميع المسائل والمشاكل العائليَّة إن وُجِدت!
لذا، على المرء العربي أن يلاحظَ ذلك، سويَّة مع ملاحظة الكيفيَّة التي بواسطتها شطَّرت الثروة والتقنيَّات الحديثة الأُسرة الواحدة، درجة أنَّنا نتشوَّق ليوم واحد نجتمع به، إخوانًا وأخوات مع والدينا، على مائدة واحدة: ربَّما لا يَحدُث هذا سوى أوَّل أيَّام الأعياد الدينيَّة تقليديًّا، حيث يذهب الأبناء والبنات (بعد زواجهم واستقلالهم) لتقديم تهاني العيد للوالدَيْنِ اللذَيْنِ غالبًا ما يقعان فريسة للوحدة وللفراغ حال خروج أبنائهما المتزوِّجين وبناتهما المتزوِّجات من «الدَّار الكبيرة» بعد نهاية طقس «المعايدة»، لبالغ الأسف.
كان التلفاز كذلك، يخدم موحِّدًا لأبناء الأُسرة: فلَمْ تكُنْ هناك (طوال عقود الخمسينيَّات والستينيَّات) سوى قناة واحدة تعرض البرامج والأفلام والمسلسلات التي تجمع أفراد الأُسرة لمتابعتها.
أمَّا الآن، فلا بُدَّ من رصد كيف يَعُودُ الأبناء والبنات من الجامعة والمدرسة ليضعوا ما يحتاجون إليه من «طبيخ»، فيتناول كُلُّ واحد مِنهم وجبته بمفرده، على حِدة! وإذ يأتي المساء يذهب كُلُّ ابن أو بنت إلى غُرف نومهم الخاصَّة، حيث يتوافر التلفاز والحاسوب «الكمبيوتر» في غرفة كُلِّ واحدة وواحد مِنهم: ولا حاجة لاجتماع الأُسرة كافَّة لمتابعة مسلسل من نَوْع «بنت الحتة» أو «خيال المآتة» المصريين.
كُلُّ فردٍ من أفراد الأُسرة يحافظ بفضل «فائض الثروة» و»التقنيَّة الرخيصة» على عالَم خاصٍّ به في غرفته الصغيرة، دُونَ الحاجة لتبادل أطراف الحديث والتعليقات بَيْنَ الآباء والأبناء، لبالغ الأسف: فهل أساءت فوائض الثروة والتقنيَّات الحديثة والرخيصة (ومنها الحواسيب والإنترنت) على تماسُك الأُسرة العربيَّة وتجانسها، مقارنة بما كان يحدث في خمسينيَّات وستينيَّات وسبعينيَّات القرن العشرين؟ ما الذي حدث، يا ترى؟
أ.د. محمد الدعمي
كاتب وباحث أكاديمي عراقي