تتزاحم في ذاكرتي نظريات واستراتيجيات كثيرة للعلاج النفسي وتطوير الذَّات والعلاج بالطاقة، أمارسها وأكتب عنها وأدرب الناس عليها، وهي عبارة عن مجموعة كبيرة من التقنيات والأساليب التي تراكمت في علم النفس وفي أدبيات التنمية البشرية وتطوير الذَّات، ولكن بمرور السنوات صرت أنا شخصيًّا أمارس التغيير الذَّاتي عن طريق حركات الصلاة من حيث التركيز واستحضار العقل والشعور أثناء حركات الصلاة من نية ووقوف وركوع وسجود وترديد الآيات والأدعية، ثم اكتشفت قوة السجود في إحداث التغيير وتنظيف العقل والتخلص من الماضي السلبي من خلال ثلاث حركات بسيطة جدًّا يستطيع كُلُّ مصلٍّ أن يقومَ بها.
تبدأ الحركة الأولى بالدخول في الصلاة بتكبيرة الإحرام واستحضار النية وبمجرَّد أن يقولَ المصلي (الله أكبر)، يتخلى عن الاعتماد على كُلِّ قوة ما عدا الله سبحانه وتعالى، يدخل في حالة معيَّة الله، يقرأ دعاء الاستفتاح: (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين وبذلك أمرت وأنا من المسلمين).. دعاء فريد يحدث تأثيرًا عجيبًا، وتؤدي قراءة ما تيسر من القرآن بعد سورة الفاتحة إلى استحضار عقل المصلي وإحداث اليقظة العقلية والحفاظ على العقل في حالة الآن وهنا.
وعِندما يركع يجدِّد انتباهه وينقل وعيَه من حالة القراءة إلى حالة الشعور بجميع الأعضاء، ثمَّ يستوي واقفًا، وهو في حالة من اليقظة والخشوع، قبل أن يخرَّ ساجدًا لِيصيرَ أقرب إلى الله أكثر يقول الله سبحانه:(اسجد واقترب).. وهنا يردد المصلي هامسًا:(سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى، سجد وجهي للذي خَلَقه وصوَّره وشقَّ فيه سمعه وبصره تبارك الله أحسن الخالقين، اللهُمَّ اغفر لي مغفرة تذهب بها ذنبي وتلغي بها همِّي، وتستر بها عيبي وتصلح بها حالي).
في لحظات السجود تنتاب المصلي حالة شعور بالراحة والتخلص التام من التوتر والتحرر من كلِّ قوَّة وثنية ويستمد المصلي قوَّته من ربِّه الأعلى ويستحضر حالة التخلص من جميع الآثام والطاقات السلبية والمخاوف ويرميها أرضًا ويتخيل الأرض تبتلعها، ثم يقوم ويكرر السجود مرَّة أخرى، ليتخلَّص من كُلِّ فكرة وكُلِّ طاقة سلبية ويعيد شحن عقله وجسده بالنور الإلهي الذي سيجد أثره فور انتهائه من صلاة الفريضة ثم يزيد شعوره بالطمأنينة في جميع الصلوات التي يؤديها. وبمرور الأيام صرت أكثر تركيزًا، وصار السجود هو أفضل وضعية ألجأ إليها للتخلص من الآلام والأفكار السلبية والمشكلات.
ومع التكرار والتركيز العقلي والاسترخاء بالصلاة، ينتقل المصلي من حالة جسدية إلى آفاق روحية عُليا، وتحضرني أبيات شعرية جميلة للشاعر بهاء الدين الأميري وهو يصف استمتاعه بالصلاة ويتوسل إلى الإمام أن يتئد ولا ينقر الصلاة نقرًا بقوله:
اتئد يا إمام! لا ترفع الرأس
سراعًا من السجود لربي
أنا لما تنسم الروح عبر الأفقِ
عرفا عن أشرف الخلقِ ينبي
وتطلعت خاشعًا مستهامًا
بجنان موله مشرئب
هام قلبي بين السماوات والأفلاك
يسعى إليه من كل درب
ثم لما سجدت في الروضة الغراء
أرمي عن كاهلي عبء ذنبي
خلت قلبي ألقى النياط جذورا
في جنان الهوى لغرسة حبي
فاتئد يا إمام! لا ترفع الرأس
سراعًا، تكاد تجتث قلبي
د. أحمد بن علي المعشني
رئيس أكاديمية النجاح للتنمية البشرية