[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/zohair.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]زهير ماجد [/author]
مقدمة:
بين البيان الأول لحركة التحرير الوطني الفلسطيني " فتح " ومعركة الكرامة ثلاث سنوات وثلاثة اشهر .. ففي الاول من يناير 1965 كان رجل اصلع يركب سيارة من نوع فولسفاكن عتيقة الشكل يدور بها على الصحف وخاصة " النهار " ، ويدخل على رئيس تحريرها غسان تويني ليسلمه ذلك البيان الذي وضع يومها في الصفحة الاولى لكن احدا لم ينتبه له، وفيه ان قوات " العاصفة " التابعة لحركة " فتح " قامت بعملية عسكرية في الاراضي المحتلة وعاهدت شعبها الفلسطيني والعربي على اكمال الطريق، اما الرجل الاصلع فكان ياسر عرفات.
ــــــــــ
يومها قرأت البيان، ورغم اني كنت في اولى مراحل الشباب اخذته على محمل الجد فيما سخر بعض الاصدقاء منه، والسبب ان الرئيس جمال عبدالناصر كان يطغى على عقولنا في تلك الفترة وكنا نظن ان جيشه المصري وبقية الجيوش العربية التي تآلفت تحت مفهوم القيادة العربية الموحدة بقيادة علي علي عامر، هي التي ستحرر فلسطين ، وليس عملية من هذا النوع يمكنها تحقيق هذا التحرير المنتظر.
كان ثمة اذاعة سرية لحركة " فتح " تبث من مكان ما من بيروت كان يسمعها اهالي المخيمات الفلسطينية ويجدون فيها حلولا نفسية لما تقدمه بعض الأناشيد وبعض المعلومات والخطابات التعبوية. لكن حتى الشعب الفلسطيني ظل مدركا في تلك الفترات مثلما ادرك كل العرب ان عبد الناصر هو المحرر ولا أمل إلا به، ولم يكن يجادل في هذا المبدأ اي منهم، كان اعتقادا راسخا خصوصا بعد انشاء منظمة التحرير الفلسطينية ومن مصر وبرعاية ناصرية ايضا، اي صار للفلسطينيين جسمهم السياسي والعسكري.
لكن ذلك الأمل خاب عام 1967 عندما اوقعت اسرائيل هزيمة نكراء بالجيوش العربية وخاصة بالجيش المصري وكاد عبد الناصر ان يغيب عن المسرح عندما استقال من منصبه .. كانت ضربة موجعة لم يفق منها الشعب العربي والفلسطيني تحديدا، فكان الاحباط بعينه حيث اسودت الدنيا في عيون الجميع ولم يعد هنالك مخرج، بل صارت فلسطين ابعد بكثير ، وربما غابت نهائيا عن المشهد في عقول البعض.
ومن قال ان قضية كبرى كفلسطين تطمرها معارك خاسرة، فما حصل كان بمثابة معارك ليس الا ، لكن الحرب لم تنته، واليوم مر على ذلك التاريخ اكثر من خمس واربعين سنة وما زال الجرح الفلسطيني كأنه وقع البارحة، بل مازالت الهمة نحو التحرير اكثر اتساعا واملا، ومن يؤمن بالمتغيرات عليه ان ينمي لديه حس الوصول الى اهدافه.
رويدا رويدا زحفت فكرة الكفاح المسلح الى المخيمات لكنها لم تطغ ولم تصبح اساسية، فما زال الفلسطينيون يعيشون بين الظنون المفتوحة وبين الواقع المؤلم، بل مازالوا في تلك الاوقات الحرجة يسعفون انفسهم ببقايا امل كان قد خطه عودة عبد الناصر عن الاستقالة والبدء بتنفيذ تسليح جديد واعلان اللاءات الثلاث التي هي لاصلح ولاتفاوض ولا اعتراف باسرائيل، تلك المصطلحات الجديدة اعادت بعض الحيوية الى الامة، لكنها ظلت محل شكوك، فالهزيمة عميقة ، والدعايات النفسية متراكمة على الشعب العربي من اجل سلخه عن اي امل يراوده ، خصوصا وهو يرى القادة الاسرائيليين وهم يتغطرسون ويتحدثون كلاما لشل القدرة الشعبية عن التفكير بغدها.
اطل العام 1968، كان العمل الفدائي الفلسطيني قد نشط ولكن ليس كما يفترض، لكنه في كل الاحوال بدأ يضرب داخل اسرائيل وبدأت العمليات الفدائية تقض مضاجع الجيش الاسرائيلي، وبالتراكم صار للعمليات الفلسطينية قدرتها على الفعل داخل اسرائيل التي خافت من هذا التنامي فقررت القيام بعملية كبرى القصد منها اجتثاث هذا العمل وهذا الوجود قبل ان يستفحل.
بدأ رصد التحركات الاسرائيلية منذ ان بدأت تتجمع على تخوم نهر الاردن في الضفة الغربية منه اولى طلائع القوات الاسرائيلية التي سرعان ما ازداد عددها، وبالرصد المدقق تبين ان هدفها كبير وخطير، ثم تنامت الى ان وصلت الى يوم الواحد والعشرين من مارس حين بدأت تلك القوات بغزو الضفة الشرقية بكل امكانيات الجيش الاسرائيلي آنذاك. سنترك تفاصيل المعركة الى موقع آخر.
كان المناخ النفسي العربي والفلسطيني تحديدا في تلك الايام كثير الشكوك بامكانية الرد على اسرائيل التي سيطرت تماما على العقول وصار كل تحرك لها يعني هزيمة جديدة للعرب، ذلك الواقع يمكن ان تعيشه دول كبرى ايضا، الناس عادة مع الانتصارات، من يربح هو الفائز وهو المسيطر الى ان يحين التغيير، فكيف بالتالي هضم اية حالة جديدة حتى لو كانت مزروعة بقوة الايمان، وماذا يفعل الايمان وحده برأي الناس امام القوة الاسرائيلية المسيطرة على العقل العربي.
كنت في تلك الفترة اتابع النشاط الفلسطيني وأومن انا ومجموعة من الاصدقاء بالكفاح المسلح كحل لتحرير فلسطين، بل لتحرير العرب من كل مشاكلهم، فقد ساد آنذاك شعار تحرير الارض والانسان وكان ملائما تماما لافكارنا.
اقتربت ساعات الخطر من الاراضي الاردنية التي يبدو انها ستكون هدفا للعملية الاسرائيلية المتوقعة .. في تلك الاوقات كنا نتذكر المعارك الاسلامية الكبرى التي حصلت في التاريخ الاسلامي وكيف انها مازالت ذحيرة للامة، تنظر اليها وكأنها حصلت البارحة، وكان لسان الحال يقول لماذا لاتحصل المعجزة ويتمكن الفلسطينيون من تغيير المعادلة في ظرف يحتاجه العرب وتحتاجه الأمة تماما، واذا ماحصل ذلك فسيبنى عليه الكثير.
استيقظت صباح الواحد والعشرين من مارس 1968 وهو اول يوم في فصل الربيع، وكان المذياع هو الاقرب الينا باعتبار ان لامحطات تلفزيونية كانت موجودة، وعندما فتحته على الاذاعات سمعت اناشيدا، ثم مذيعين ينادون شعوب الأمة بأعلى الصوت ان هبوا لمساندة اخوانكم في الاردن، تلك المقدمات عرفتني بان حدثا كبيرا يدور هناك، وقد كان متوقعا في كل الاحوال، واذا بها الحقيقة، القوات الاسرائيلية تعبر نهر الاردن لتهاجم مخيما فلسطينيا في منطقة الكرامة، وهنالك تدور معارك يقول الجيش الاردني انه يشارك فيها بالمدفعية وبالقتال المباشر، فيما يخوض الفلسطينيون اعتى قتال يواجهونه.
كانت الافكار الاولية ان الفلسطيني لن يصمد امام الآلة الاسرائيلية المتقدمة اذ مازال العقل المهزوم مسيطرا، صحيح ان الهزيمة احاقت بالجيوش العربية لكنها ضربت كل العقل العربي. وبدأت الاخبار الواردة من ارض المعركة تتحدث عن الصمود الاسطوري للمقاتلين الفلسطينيين وللجيش الاردني لكن الشك بقي ملازما لنا في ماكنا نسمعه، الا انه كان علينا ان نصدق حتى نغسل العار الذي وقع في الهزيمة الكبرى. ومع الليل كانت الاخبار اكثر تكثيفا وجلها يقول ان الاسرائيلي لم يحقق ما اراده، وانه وقع في شر هزيمة .. ظللنا على فكرة التصديق وعدمه حتى طلع الصباح ورأينا في الصحف دبابات اسرائيلية تحترق، وجنودا اسرائيليين تم ربطهم بالجنازير داخل دباباتهم خوفا من ان يولوا الادبار اثناء المعارك، عندها صدقنا فاثلجت صدورنا، فرحنا بالانباء التي تتالت وكانت كلها تأتي من ارض المعركة كيف استبسل الفلسطينيون وكيف واجهوا ولم ينسحبوا اطلاقا، وكيف استشهد منهم قادة معروفون، وكيف كان بعضهم يقفز داخل الدبابة الاسرائيلية وبحوزته متفجرات فيفجر نفسه مع طاقم الدبابة الاسرائيلية.
سمعنا من الاذاعة الفلسطينية التي كانت تبث من مكان ما من بيروت تفاصيل مهمة عما دار في المعركة، ومما احزننا ان ياسر عرفات الذي لم يكن معروفا في ذلك الوقت، بل كان رمزا اوليا لمرحلة ستأتي لاحقا، كان يبكي بحرارة على تدمير مقر تدريب زهور وزهرات فتح الذين يقدرون بالمائة وهم الفتية الفلسطينون الصغار الذي لاتتجاوز اعمارهم العشر سنوات ثم قتلهم جميعا.
لقد عنى هذا الانتصار شعبنا العربي وخصوصا الفلسطينيين، وعدت معركة الكرامة من المعارك الكبرى في التاريخ العربي، ومن المؤسف ان لايهتم الاعلام الفلسطيني بهذه المناسبة العزيزة على قلوب الشعب الفلسطيني والعربي والتي كان لها اثر عميق في تغيير المسار النفسي والنضالي للامة كلها. فلقد حصل ماتوقعته القيادة الفلسطينية أنذاك، حين زحفت جموع من الشعب الفلسطينية لتلتحق بالعمل الفدائي ومعهم الكثير من العرب الذين جاؤوا من كل العالم العربي من اقاصيه ومناطقه البعيدة الى اقرب نقطة. آلاف مؤلفة من المتطوعين لم يكن بالامكان تحمل اعدادهم الغفيرة، وصلوا الاردن والتحقوا بالتدريب الفوري .. فلقد ثبت ان انتصارا واحدا يقلب طاولة الهزائم، وان الشعب العربي يعطي من دمه ومن عرقه في اللحظات التي يشعر فيها ان الأمل بتحرير فلسطين بات موجودا. ولكثرة الاعداد التي لم يتحملها التدريب، فتحت معسكرات بالجملة، كانت كلها تدرب على الكفاح المسلح والانخراط بالعمل الفدائي الذي صنعت مجده عملية الكرامة واعطته ذلك الألق الكبير، وامدته بقوة وعزيمة .. صحيح انه استشهد قادة واطفال وتم تدمير المخيم، لكن حلاوة النصر عوضت الاحساس بما وقع، فصارت الكرامة رمزا يتباهى بها ويومها خرجت اغنية شهيرة تقول" وحدنا الدم ياكرامة / والشمل التم ياكرامة / بجبال النار فدائية / بين الاغوار فدائية / ع جبين الارض العربية وحدنا الدم / بحرب التحرير الشعبية وحدنا الدم / غلابة يافتح ياثورتنا غلابة / غلابة الايد التي تفجر دبابة ".
وهنا اريد ان اسجل ان مواطنا لبنانيا يدعى عز الدين الجمل التحق بالتدريب في الاردن لكنه قتل اثناءه، فتم دفنه في مقبرة الشهداء بمدينة اربد وعندما عرف اهله جاؤوا يطالبون بجثته فأصر ياسر عرفات ان يتم تسليم الجثة مقابل ان تقام له جنازة شعبية، وبالفعل، فاني اذكر ان جنازة مليونية ليس لها مثيل حملت النعش الى مقبرة الشهداء وهي تهتف للعمل الفدائي، فزاد هذا المشهد من وتيرة الالتحاق بالكفاح المسلح .. ومن خلال هذه العملية ولد الدفع القوي لفكرة هذا الكفاح وللعل الفدائي وبرزت اسماء قادة، وصار الفدائي بمثابة قديس اذا مادخل اي منزل تبارك به، حتى اني كنت اشعر يومها ان كل الناس صاروا فدائيين بعدما عم اللباس الفدائي، وعمت الكوفية الفلسطينية التي صارت رمزا يضعها الناس على رؤوسهم تحببا.
/// المعركة توثيقيا
عدت معركة الكرامة من معارك التاريخ الكبرى كونها غيرت مسار واقع بكامله، من هزيمة مرة مدوية الى ضوء وسط ظلام .. ومن اناس يضربون كفا بكف من هول الهزيمة، الى مهرولين للالتحاق بالعمل الفدائي ايمانا بالتحرير ، واعتقد ان معظم شباب تلك المرحلة كانوا على رأس المهرولين وما اكثرهم من ألوف مؤلفة.
واعتمادا على كتابات تناولت تلك المعركة بكل ممهداتها وتفاصيلها، يمكن القول بناء على تلك الكتابات، انه بعد احتلال اسرائيل للضفة الغربية من نهر الاردن والتي كانت خاضعة لادارة المملكة الاردنية الهاشمية بعد نكبة 1948، نشطت مجموعة من الفدائيين الفلسطينيين في منطقة الغور الشرقية للنهر وكان الجيش الاردني يقوم بتغطية العمليات التي كان ينفذها الفلسطينيون داخل الارض المحتلة، حتى وان لم يكن هنالك تنسيق بين الطرفين .. وتذكر التقارير ان اسرائيل كثيرا ما اصطدمت بالجيش الاردني حتى قيل ان اكثر من اربعين اشتباكا حصل بين الطرفين في تلك الفترات التي عمرها ثلاث سنوات تقريبا، اي منذ الهزيمة في الخامس من يونيو 1967 وحتى 21 مارس 1968.
مهدت اسرائيل لعمليتها بعدد من التصريحات الاولية مهددة الاردن انه في حال استمرار الاعمال الفدائية فانها ستقوم بعمل مضاد وربما بعمليات كبيرة من اجل استئصال الحالة الثورية القائمة. وكان واضحا ان اسرائيل تمهد بذلك لهجوم على الاراضي الاردنية، عمدت اليه بالفعل على طل الجبهة ومهدت لذلك بمحاولات نفسية وسياسية وعسكرية عمدت بواسطتها الى تهيئة المنطقة لتطورات سوف تقوم بتنفيذها .. وكما قلنا في البدية فقد كان واضحا لاجهزة الرصد الفلسطينية وكذلك للاستخبارات الاردنية ان ثمة تكثيفا للقوات الاسرائيلية يجري اعتمادها على الضفة الغربية لنهر الاردن، وكان واضحا من ضخامة تلك التكثيفات ان وراءها عملية كبرى تنوي اسرائيل قيامها ضد الفلسطينيين والاردنيين معا.
واعتمدت اسرائيل على ذلك بمجموعة عوامل قيل انها كانت رؤيتها في ذلك الوقت، وابرزها ان الروح المعنوية العربية في الحضيض ويمكن لأي عمل عسكري اسرائيلي ان ينجح تماما في مهماته، وان الجيش الاردني لايشكل قوة امام الجيش الاسرائيلي او امام اية قوة اسرائيلية، خصوصا وانه لم يكن تمكن حتى ذلك الوقت من اعادة ماخسره في حرب يونيو اي قبل عام تقريبا، وخصوصا في مجال الطيران الحربي، كما كان ضمن نوايا اسرائيل ان دخولها على هذا الخط وبضربة واحدة للجيش الاردني والفلسطينيين سيوقع يين هذين الطرفين ازمة ثقة قد تتحول الى قتال بينهما.
وتقول وثائق انه رغم ان اسرائيل اعلنت انها قامت بالهجوم لتدمير قوة المقاومة الفلسطينية الا ان الهدف الحقيقي كان احتلال منطقة البلقاء الاردنية وذلك طبقا لوثائق حصلت عليها المخابرات الاردنية، فقبل ايام من معركة الكرامة حشدت اسرائيل قواتها في منطقة البلقاء والاقتراب من العاصمة عمان وضم اجزاء من الاردن وتحويلها الى جولان اخرى، بل يبدو انها تريد الضغط على الاردن لتحقيق الاهداف الي لخصتها المعلومات بالتالي:
ـ ارغام الاردن على قبول التسوية والسلام الذي تفرضه اسرائيل وبالشروط التي تراها وكما تفرضها من مركز القوة.
ـ محاولة وضع ولو موطيء قدم على ارض شرقي نهر الاردن باحتلال مرتفعات مدينة السلط الاردنية وتحويلها الى حزام امني لاسرائيل تماما كما فعلت في جنوب لبنان لاحقا.. وبذلك تضمن الهدوء والاستقرار على خط وقف اطلاق النار مع الاردن بعد تحطيم القوات الاردنية وتوجيه ضربات قوية لها، اضافة الى زعزعة الروح المعنوية للسكان المدنيين بحرمان المقاومة الفلسطينية من وجود قواعد لها بين السكان وبالتالي المحافظة على الروح المعنوية للجيش الاسرائيلي بانه اضاف انتصارا آخر حققه على جبهات عربية اخرى.
وبعملية توثيقية حقيقية يمكن القول ان عملية معركة الكرامة بدأت عند الخامسة من صبيحة 21 مارس 1968 وانها استمرت ست عشرة ساعة في قتال مرير على طول الجبهة .. وفي الساعات الاولى للعملية اصدر الاردن بيانا قال فيه انه في تمام الخامسة والنصف من صباح اليوم قام العدو بشن هجوم واسع في منطقة نهر الاردن من ثلاثة اماكن جسر داميا وجسر سويمة وجسر الملك حسين وقد اشتبكت معه قواتنا بجميع الاسلحة واشتركت الطائرات التابعة للعدو في العملية، ودمر للعدو حتى الآن اربع دبابات واعداد من الاليات وما زالت المعركة قائمة بين قواتنا وقواته حتى هذه اللحظة. وكان الجيش الاسرائيلي قد حشد قوات هائلة في تلك المعركة تذكر التواريخ انها كانت لواء مدرعا ولواء مظليين ولواء مشاة وعشرين طائرة هيلكوبتر ( مروحية ) وخمس كتائب مدفعية 155 ملم .. وكان قد بدأ قصفه المركز على مواقع الانذار والحماية ثم قام بهجومه الكبير على الجسور الثلاثة، ويقول اللواء في الجيش الاردني مشهور حديثة انه عند الخامسة فجرا ابلغني الركن المناوب ان العدو يحاول اجتياز جسر الملك حسين فابلغته ان يصدر الاوامر بفتح النار المدمرة على حشود العدو لذلك كسب الجيش الاردني مفاجأة النار عند بدء الهجوم من القوت الاسرائيلية ولو تأخر ذلك لاتاح للقوات المهاجمة الوصول الى اهدافها بالنظر الى قصر مقتربات الهجوم التي تقود وبسرعة الى اهداف حاسمة وهامة. وفي وقت لاحق اصدر الجيش الاردني بيانه العسكري الآخر قال فيه ان القتال مازال على اشده بين قواتنا وقوات العدو على طول الجبهة ويدور القتال الآن بالسلاح الابيض في منطقة الكرامة، مما عنى في تلك الفترة ان العدو قام بعملية انزال هناك، كان الهدف منها تخفيف الضغط على قواته التي عبرت شرقي النهر بالاضافة الى تدمير بلدة الكرامة، خاصة عندما تتمكن من زج اية قوات جديدة عبر الجسور نظرا لتدمير ها من قبل سلاح المدفعية الملكي وهذا دليل قاطع على ان الخطط الدفاعية التي خاضت قوات الجيش العربي الاردني معركتها الدفاعية من خلالها كانت محكمة وساهم في نجاحها الاسناد المدفعي الكثيف والدقيق الى جانب صمود الجنود في المواقع الدفاعية وفي عمقها كان الانزال شرق بلدة الكرامة عملية محدودة حيث كان قسم من الفدائيين الفلسطينيين يعملون فيها كقاعدة انطلاق للعمل الفدائي، وذكر في هذا الصدد ان المقاومين الفلسطينيين المتواجدين هناك بقوا في البلدة ويسجل لهم دورهم بانهم قاوموا ببسالة واستشهدوا جميعا فيها.
وبعد ان فشل العدو في المعركة ولم يحقق ايا من اهدافه، بل خرج خاسرا ماديا ومعنويا، خسارة لم يكن يتوقعها، صدرت الاوامر من قيادته للانسحاب حوالي الساعة الثالثة بعد الظهر بعد ان رفض الملك حسين الذي اشرف بنفسه على المعركة وقف اطلاق النار رغم كل الضغوطات الدولية .. وللمعلومة نقول ان عملية الانسحاب استغرقت تسع ساعات نظرا للصعوبة التي عاناها الاسرائيليون في التراجع .. بل ان اسرائيل هي التي طلبت وقفا لاطلاق النار لاول مرة في تاريخ الصراع العربي الاسرائيلي الا ان الملك حسين رفض ذلك طالما ان هناك جنديا اسرائيليا واحدا في الاراضي الاردنية. وبناء عليه انسحب الاسرائيليون تماما يجرون الخيبة والذل بعد عملية فاشلة تماما حيث كانت خسائرهم كالتالي: قتل منهم 250 جنديا وجرح نحو 450 في اقل من 18 ساعة. كما تم تدمير 88 آلية وهي عبارة 27 دبابة و18 ناقلة و24 سيارة مسلحة و19 سيارة شحن وسقوط طائرة، وكان الاردن من اجل اثبات صحة تلك الخسائر قد قام بعرضها امام الملأ في الساحة الهاشمية. اما خسائر القوات الاردنية فكان 86 شهيدا وعدد الجرحى 108، وتدمير 13 دبابة و39 آلية مختلفة اما الفدايون الفلسطينيون فحسبما تقول الاحصاءات كان هنالك 95 شهيدا بينهم خيرة قيادييهم اضافة الى حوالي 200 جريح.
اما ردود الفعل التي صدرت في ذلك الوقت، فكان اولا رسالة الملك حسين الى كافة القوت المسلحة وقد قال فيها " لقد مثلت معركة الكرامة بابعادها المختلفة انعطافا هاما في حياتنا ذلك انها هزت بعنف اسطورة القوات الاسرائيلية كل ذلك بفضل إيمانكم وبفضل ماقمتم به من جهد وما حققتم من تنظيم حيث اعدتم احكام حقوقكم واجدتم استخدام السلاح الذي وضع في ايديكم وطبقتم الجديد من الاساليب والحديث من الخطط وإنني لعلى يقين بان هذا البلد سيبقى منطقلا للتحرير ودرعا للصمود وموئلا للنضال والمناضلين بحمي بسواعدهم ويذاد عنه بارواحهم والى النصر في يوم الكرامة الكبرى والله معكم.
اما ردود الفعل على العملية الاسرائيلية الخاسرة فجاءت في تلك الاوقات على الشكل التالي: قالت صحيفة نيوزويك الاميركية " لقد قاوم الجيش الاردني المعتدين بضراوة وتصميم وان نتائج المعركة جعلت من الملك حسين بطل العالم العربي " .. اما حاييم بارليف رئيس الاركان الاسرائيلي في حديث له ان اسرائيل فقدت في هجومها الاخير على الاردن اليات عسكرية تعادل ثلاثة اضعاف مافقدته في حرب يونيو. اضاف بارليف " ان عملية الكرامة كانت فريدة من نوعها ولم يعتد الشعب في اسرائيل مثل هذا النوع من العمليات، وبمعنى آخر كانت جميع العمليات التي قمنا بها تسفر عن نصر حاسم لقواتنا، ومن هنا فقد اعتاد شعبنا على رؤية قواته العسكرية وهي تخرج منتصرة من كل معركة اما معركة الكرامة فقد كانت فريدة من نوعها، بسبب كثرة الاصابات بين قواتنا والظواهر الاخرى التي اسفرت عنها المعركة مثل استيلاء القوات الاردنية على عدد من دباباتنا وآلياتنا وهذا هو سبب الدهشة التي اصابت المجتمع الاسرائيلي ازاء عملية الكرامة. اما عضو الكنيست الاسرائيلي شلومو جروسك فقال انه لايساورنا شك حول عدد الضحايا بين جنودنا، وقال عضو الكنيست توفيق طوني لقد برهنت العملية من جديد ان حرب الايام الستة لم تحقق شيئا ولم تحل النزاع العربي الاسرائيلي. في حين طالب عضوالكنيست شموئيل تامير بتشكيل لجنة برلمانية للتحقيق في نتائج الحملة على الارض الاردنية لان عدد الضحايا اكثر نسبيا في القوت الاسرائيلية. اما قائد مجموعة القتال الاسرائيلية فقد وصف المعركة بقوله لقد شاهدت قصفا شديدا عدة مرات في حياتي لكنني لم ار شيئا كهذا من قبل، لقد أصيبت معظم دباباتي في العملية ماعدا اثنتين فقط.
وبعد، لابد من اعادة الاعتبار الى معركة الكرامة باعتبارها مفصلا مهما في الصراع العربي الاسرائيلي، ولأننا نعود اليها، فلأنها يجب ان تبقى صورة مشرقة عن عنفوان عربي تحقق في فترة مظلمة من تاريخه أثر كثيرا على النفوس العربية وادى الى تغيير في دواخل كل عربي، حيث الاحاسيس المظلمة التي استبدلتها الكرامة بمشاعر فياضة فرحة اضاءت الكون العربي يومها، ومنها بالذات حققت الأمة تطلعاتها في امكانية النصر، بل ان بعض قادة حزب الله يتذكرون تلك المعركة بانها مدرسة لهم، وان محاكاتهم لها هو الذي حقق النصر لهم في الحروب مع اسرائيل وابرزها حرب العام 2006 . لكن تلك المعركة ليست مجرد ذاكرة بل اعتراف من الفلسطينيين اليوم بانها جزء من نضالهم الكبير وانه يمكن مشابهتها اذا ماعاد الفلسطيني الى سلاحه الذي صار ممنوعا عليه بكل اسف.