[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/aliaklahersan.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]علي عقلة عرسان[/author]
في عام 1999 قررت اليونسكو في دورتها الثلاثين أن تحتفل سنويًّا بالشعر في يوم سمي اليوم العالمي للشعر.. ومنذ ذلك التاريخ أصبح يوم 21 آذار/مارس من كل عام يومًا يحتفى به عالميًّا بالشعر؟! وكان من بين الأهداف المنشودة: "دعم التنوع اللغوي من خلال التعبير الشعري، وإتاحة الفرصة للغات المهددة بالإندثار بأن يُستمع لها في مجتمعاتها المحلية، والعودة إلى التقاليد الشفوية للأمسيات الشعرية، وتعزيز تدريس الشعر، وإحياء الحوار بين الشعر والفنون الأخرى، ورسم صورة جذابة للشعر في وسائل الإعلام.."، وكل ذلك محمود، لكنه لا يعني بحال من الأحوال أن الشعر.. الشعر.. لم يكن موضع اهتمام من الشعوب على مدار العصور، وربما كان عصر الإعلام هذا قد أخذ من الشعر والشاعر صفة ووظيفة "الصنَّجة".. لكنه لم يقتحم ساحة كونه ديوان الأمم وسجلها الحافل بالكثير مما كثفه الكلام وجمله وأرساله عبر الزمن مؤثرًا في معظم الاتجاهات التي تحفل بها الحياة. وفي اليوم العالمي للشعر، اليوم، أقف وقفة عليها ولها، من وحي الشعر الذي له وعليه..
الشعر ربيع الروح ما دام في تجدد فهي في تجدد، والروح حياة جسد ومصدر حيوية أداء وإبداع في الحياة والعطاء، والجسد أدوات ونزوات وحواس وشهوات ومادة قد تشغل الروح فتنشطها أو تضعفُها أو تثبطها، وقد تحكمها الروحُ وتسيطر عليها فتحكم الجسد بحكمها. وإذا كان الشعر يغرف من بحر العواطف ومواجع القلوب ومناقع الدم ومجاري الدموع، من الفقر المدقع والخير العميم، ويقارب البؤس واليأس والنعيم المقيم والتفاؤل البناء والظلم والقهر والتمرد، لكي يكون مع الإنسان في كل شأن، ويبحر في خضم زاخر بإغراء المغامرة وفرص الكشف، مستنيرًا بنور القلوب وعيون البصائر، فإنه لن يبذر حقلًا ولن يسعد نفسًا ما لم يَعُدْ إلى شاطئ وأرض وخلق بوفاء وصدق انتماء للبيئة والإنسان، ولن ينعش روحًا ويبلسم جراحًا ويسمو بأنفس ما لم يملأ بخيلاء التخييل درب الأمل الجميل ويزيّن عالم المادة المفعم بالمقت والقلق والرَّهق بأجمل التصاوير وأحلى الألوان.. يزيّنه بشيء من عطاء الروح وتساميها وتألقها وأمانيها واطمئنانها إلى أمن من جوع وخوف في أوقات الحرب والسلم.. عطاء ترتاح إليه الأنفس وتشرئب منه أعناق الجوارح ليوم جديد تحياه بأمل وفرح متجددين، ويلونه قوس قزح بأبهى ما لديه من ألوان الشعر وليس بركام الضباب والظلام التي تجثم على بقايا الخراب واليباس في الروح والمادة، يفرّخ في عشه البوم وينتشر منه جناح الغراب، ولا هو العبارة السقيمة والاستهانة العقيمة بقيم الناس وحياتهم وبمقومات اللغة والأدب وأصول الفن الشعري الذي يحمل سمات الأمم وخصوصياتها وفنونها في الإبداع والتلقي. يا لصفاء الشعر .. الشعر.. إنه النور منثورًا على الورد في صباح نديّ، والعزم مقدودًا من الإرادة والوعي في قلب فتي، واقتدار الإنسان الخلاق على التعامل مع أدوات الإبداع بإبداع، لتحقيق متعة، واستكْناه خفايا عاطفة وشعور وقلب وقضية مؤرّقة، واستنهاض همة لعمل الخير، وتصوير قَطْفة من جمال أو فكر أو خيال، قطفة من ندى وغيم وعطر وشعور تبقى في اليد أو يبقى عطرُها فيها بعد الغياب.. إنه نداء الحياة والمحبة يستجيب لـه الإنسان الذي يصنع الحياة وتصنعه الحياة. الشعر حياة تجدّد فينا الرغبة في الإقبال على الحياة، ويدفعنا في تيار الحب إلى مزيد من الحب، وهو سيف وإرادة وزهرة وحلم ونغم، في تفاعل انفعال وطني أو بطولي أو عاطفي مع الصدق والحق والحرية والبطولة والعدالة، يتدفق نغمًا وأملًا في قلب الإنسان وفي مجالي البيان على مدى الزمان ورحابة المكان.. وإذا ملك الشعر سحرًا فهو المعاناة المرة مسكوبة في العذوبة، وإذا خاب لسبب من الأسباب، غاب عن ساحة التأثير وفقد سحر التعبير وأصبح عبئًا على الشعر يزيد أعباء الحياة على النفس التي تجدد بانسكابه فيها نورًا أكسيرَ الحياة في متونها. الشعر حياة، وربيع الإبداع، وربيع الروح في الحياة .. والشعراء أذواق وعوالم ومدارس، بينهم من يعيد إليك صوت الصحراء بصفاء ويذكّرك بغزل العشاق وموتهم عشقًا، وبحِكَم الجاهليين العرب، وببساطة البداوة البدائية وعذوبة ألحانها في مغانيها، ومنهم من يرمح في ساحة الحرب برمح وسيف أو بصاروخ على الكتف، ومنهم من يسجل لحظات البؤس البشري ويدعو إلى العدل والسلم. ومن الشعراء من يركلك بقدم صناعية من حداثوية ما بعد الحداثة، ويقدم انحلالًا من كل قيمة بلغة تخلو من القيمة، ويشتمك بغلظة جهول، ليقول لك إنه شاعر وإنك لا تفهم ما يقول، وإنه يكتب لأناس عصر قادم يفهمون ما لا تفهمون؟! وكلهم يشد حباله إلى خيمة الشعر حتى لو قال نثرًا جميلًا لا تتوفر فيه مقومات الشعر وقيمه. الحب في أداء الشعراء لـه عرزال ودفء وتعلّق بالدفء والقمر والخضرة والوهم والماء والسراب المترائي ماء، وله في الغضب القومي خيمة وراية، وفي أداء بعض الشعراء لـه شجون وجذور في النفس أقوى من جذور الشِّيح تأبى اقتلاعًا، وللشعر أحلام وآمال وبقايا يقين ترفض تهافتًا وتآكلًا وضياعًا. وتقليد البؤس وبؤس التقليد لـه عند بعض الشعراء حضور يشي بما وصلت إليه ثقافة من تبعية وهزال واضمحلال في زمن ما من أزمنة التهافت والتبعية الناجمة عن الغَلَب. تجد هذا في شعر الصينيين كما تجده في شعر العرب، في شعر الشرق كما لدى شعراء الغرب.. وكل شعر تعرّض لتجربة مرة مع الاستعمار والاحتلال والغزو الإمبريالي والعنصرية المقيتة والاستلاب الذي غزا حتى اللغات الأم لدى شعوب؛ وله اشتباك من نوع ما مع الحداثة والتحديث والأصالة التي فهمها فريق من الشعراء على أنها قيود وجمود ونادوا بالتخلص منها، ولم يروا فيها في أحايين كثيرة جذر الشجرة التي تورق وتزهر وتثمر في كل العصور، وتتلاقح معها شمس الجديد كل يوم فترتوي منها حتى الثمالة وترفد الجديد بالجدي وتبقى حاملة لطَعم التربة ونكهة البيئة في ثمارها.. ومن الشعراء من يهزون الرماح ويشهرون السيوف ويمتطون صهوات الجياد.. صحيح أنهم يحتاجون إلى إذكاء جذوة الإبداع بقبس من نار مجدول مع فيض أشعة نور الحرية والأمن من جوع وخوف، ولكنهم وهم يقرعون أبواب العصر والمستقبل بصلابة وعزم لا يكل، ويرتادون عوالم لم تُكتشَف بعد، تكون أقدامهم مغروسة في طين الواقع وفي سحر الماضي، مما يصعب الفكاك من تأثيره على من أراد من ذلك فكاكًا؟! الشعر ليس كما نريده أو نريد له فزمامه ليس بيدنا، ولكنه ليس غارقًا في عتمة الموت وطين الشهوة إلى حدود فقدان الرجاء من انطلاقة متألقة له تسمو به وتسمو بقارئه.. ولكن من زجّوه في دوامات الضياع والإبهام والإغلاق والتيه والفوضى والتقليد الأعمى على مدى عقود من الزمن، ضيّعوا طاقات مبدعة كان يمكن أن تحسِّن الحرث والزرع والنسل في حقوله الخصبة، وتركوا طاقات أخرى من غير بوصلةNu Wa "()تهديها في ليل غفَت فيه النجوم وغاب القمر، وسهت الآلهة الصينية ني وا عن ترقيع السماء التي امتلأت بالخروق. الشعر موجود .. ولكن من الذي يعقد رايته على حربة بندقية المقاومة العادلة ويرفعها فوق صاري مركب الحرية المبحر في فضاء بلا حدود، ويشده إلى أوتاد وجبال حِكَم راسخة في الوجود؟! ومن يجعله رفيقًا للصاروخ والطائرة النفاثة والغواصة والمركبة الفضائية مثلما كان رفيقًا للسيف والرمح والحصان وسفينة الصحراء؟! ومن يجعله سيف الحكمة ويقظة الضمير وقوة العقل وسلامة السلوك ونعمة السلام؟ ومن يجعله رافعة الانتماء والهوية لأمة وقضية، ويدخل به قلب الحدث النابض وقلب الشعب الملتهب، بتعبير يجسد التدبير الحكيم والعدل المنشود والحرية المتجددة ويثري الحياة!؟ ومن الذي ينعش الشعر ذاته باستنباته في مساحات الفن والحب والخير والجمال والقيم الإنسانية الرفيعة، وفي دماء شهداء الحرية ومبدئية المقاومين المتمسكين بالأرض والحق والعدل، وبالمقدس والتاريخي والإنساني؟! ومن يحفر خنادقه ليتخذ متاريسه مع المدافعين عن الحقّاني والقيمي والخُلُقي والعادل، ليجعل للشعر قضية ولهبًا ومخلبًا ونابًا وخلودًا مجيدًا في مدى السلم والحرية والعيش الكريم؟! لا أقول بفقد مطلق للسائرين في هذه الطريق، ولكنني أقول بقلة السائرين فيها بهدي على الرغم من جلال المبدأ وجمال المنبت ونبل الغاية وكثرة الموحيات والمحرّضات والموثّبات؟! الشعر ربيع الروح، والروح حياة، والأمل يجدد نور نفوسنا ودروبنا في الحياة، و"الأمل لـه وجوه باسمة كثيرة". كما يقول الشاعر الصيني بيين تشو ـ لين." والشعراء الصينيون كثيرًا ما يشبهون استقامة الإنسان وإباءه بعطر زهر البرقوق الذي يصمد بوجه الشتاء القارس."
وكم في الصيف من شتاء أرواح ثلجية الهبوب.
والشعر عواطف وانفعالات ومشاعر ومواقف يقدمها الإبداع في صيغ فنية تحقق مقومات الفن الشعري وقيمه.. وهو يختمر في القلب قبل أن يطفر على اللسان، والقلب يسمع ويبصر ويهتدي ويشع بالنور أو بالحب وقد يعميه الحقد ويعشش فيه الشر وتثمر فيه الكراهية.. إنه دارة عامرة تدور فيها الدوائر من كل لون.. وإذا كان القلب مهتديًا فإنه يفيض على العقل بالمحبة والحكمة، وقد تكون الحكمة ويكون التعقل والحرص على القيم الخُلقية والفنية عمودًا فقريًّا لشعر كثير كما هي الحال في أشعار مشاهير مثل هوميروس وسوفوكليس وامرئ القيس وزهير بن أبي سلمى والمتنبي ونظيره الصيني لي باو والمعري والشيرازي وطاغور وشكسبير وبوشكين.
في بعض الحالات تفعل اللغة بالشاعر فعل الريح في المركب الشراعي فتزوْبِع الكلام كما تزوبع الموج وتقود الشاعر إلى التهيام في أودية كثيرة تجره إليها شهوةُ الكلام والتفاعلُ مع جماليات ومشهديات ينجذب إليها الخيال أو يغري بها التخييل، فتفتح الباب أمام تعابير وأمام رؤى مستقبلية يصوغها الشاعر، وربما أمام عوالم خالية من الحقد والقتل والبؤس.. إنها في وجدان الشاعر وفي نسيج الكلام ولكنها قد لا تصل بوضوح ودقة وتأثير إلى من يتبادلون الرصاص عبر المتاريس أو من يصنعون السياسة من مواقع التعاسة الروحية وعمى القلوب والبعد عن القيم الأخلاقية، ويخوضون الحرب تجارة بالدم البريء ويجرون الناس إلى الويل نتيجة أطماع أو أحقاد وشهوات وتسلط، أو لتحقيق مصالح والمحافظة عليها، أو لإشباع نزوع شرير كامن في تكوينهم النفسي والروحي والأيديولوجي، أو لإرواء نزوع إلى السطوة والشهرة ودخول التاريخ حتى لو كان ذلك الدخول من باب العار والسباحة في الدم البشري والتوغل في الجرائم والكوارث والدمار، كما هي الحال مع رئيس فاشل في التفكير والتدبير، لا يعرف للسلام والحرية والديمقراطية من المعاني إلا سطوحًا كلامية وتوظيفًا مصلحيًّا، حيث يستخدمها كما البضائع تمامًا ويستثمرها ويعطيها معاني تدر عليه أرباحًا من تجارة بالسلاح والنفط والدم؟! إنه يستخدمها ستارًا لغايات ومدخلًا لاستراتيجيات عدوانية، تلك هي حال أباطرة وملوك ورؤساء وزعماء أنموذجهم العصري الرئيس الأميركي جورج بوش الذي تأخذه العزة بالإثم كلما أوغل في الجريمة والدم ولا يتوقف عند حد ولا يرى إنسانية الإنسان بل يراه بضاعة وأداة في حرب صليبية مقيتة.
في كثير من الحالات يزيّن أشخاص قادة وشعراء وغيرهم، يزينون لأقوام حالًا تأتي بها الحرب، وحين يدخلون الحرب يدخلونها على أمل أنها بأيديهم وفق برنامجهم، يبدؤونها متى شاؤوا ويوقفونها متى شاؤوا ويسيرون بها في الطريق التي يرسمونها، ويرون أنها سوف تكون لمصلحتهم ولن تدوم إلى الحد الذي يجعلهم يستسلمون لمنطقها ويستغرقون فيها.. هكذا تزيّن النفس مسارات لذاتها، والنفس أمارة بالسوء، وهكذا يزيّن قادة وحكام وشعراء لشعوبهم الحرب، ويضعون في كفها النصر ومفاتيح السلم عندما يقررون خوضها.. ولكن.. من يستطيع أن يتحكم بكل شيء، ومن يزعم أنه وحده الذي يقرر، لا سيما عندما تتداخل الأمور وتصطرع الإرادات ويصبح الرصاص لغة المتخاصمين ويدخل الميدان أقوياء يتحالفون ويتقاتلون وتأخذهم العزة بالإثم ويغريهم الدم باستنزاف الدم وإراقة المزيد منه؟
كل بطولة يرفعها الشعر هي نتيجة حرب أو مقدمة لحرب ومقترنة على نحو ما بالقوة والدم، أي أنها خروج على مقولات السلام وشروطه؟! فهل هذا النوع من الشعر مُدان لأنه لم يصنع من العنف والدم والموت حريرًا ينام عليه الأطفال في عوالم تخيلية يسود فيها العقل ويحكمها الضمير ويتحكم بها الحكماء؟!
حين نتأمل في إنتاج شعري كثير في عصور وأماكن متعددة نجد أنه يثير نوازع الخير والشر، فشعر الهجاء والمديح والفخر والذم الذي يشيد بنصر وبطولة ومكرُمة، ويذم هزيمة وجبنًا وخسة وبخلًا في مواقف أو مواجهات أو حروب.. يسجل نتائج أفعال وأحداث أكثرها متصل بالحرب والسلم ونتائجهما؟ فالشعر فعَّال في هذه المجالات ويستثير الهمم والأشخاص والأقوام. وما أعرفه من شعر شعراء مثل الأخطل والفرزدق وجرير في النقائض، والشعر المرتبط بأيام العرب وحروبها؟ هو فخر ومدح وهجو ورفع وخفض مرتبط بالحدث، وشعر هوميروس في الإلياذة كان سجل أحداث وبطولات مكتوبة بالدم والمعاناة حول طروادة وفي مسيرات الغزو ورد الغزو؟ أوليست هذه الملحمة "الإلياذة"هي ملحمة الحرب؟! أليست إنيادة فرجيل من نمط إلياذة هوميروس؟! حين يصنع الشعر بطلًا أو يمجد فتكًا ويسجل انتصار قوة بمباركة لتلك القوة أو حين يسوِّغ القتل ويرفعه إلى مرتبة البطولة، فإنه يؤسس لمعايير وقيم وقواعد اجتماعية تجعل الإقبال على القتال رجولة والفتك بطولة والنصر المضرّج بالدم غاية المجد وإكليل الغار على جبين المحاربين..
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفّة فلعلّةٍ لا يظلم
من الذي صنع بطولات ورسخ تحديات أنتجت مآسي كمأساة طروادة ومعاناة كمعاناة بريام وهيكوبا وبطولات كبطولة هكتور وأغاممنون وأخيل.. أليس الشعر؟ ومن الذي رسخ الفعل القتالي والانتصار بالقتل بطولة تحتذى لدى أمم في كل العصور.. أليس الشعر؟! فلولا الكلام لغاب كل شيء في ثنايا غبار التاريخ وللفّه النسيان تمامًا.. وكما قال أبو تمام الطائي:
وَلَولا خِلالٌ سَنَّها الشِعرُ ما دَرى بُغاةُ النَدى مِن أَينَ تُؤتى المَكارِمُ
لا يمكنك أن تنظر إلى أرض معركة ومخلفاتها وتبقى مالكًا احترامًا للبشر الذين يتساقون الموت.. ولا بد من أن تقف لتسأل: لماذا الحرب، لماذا القتل، لماذا الدمار؟ وهل الشعر الذي يمجد الأبطال وهم من يبلون بلاء حسنًا في الحروب وتكون نتائج بطولاتهم تلك أموات أو جرحى هو الذي يتسبب في ذلك والمسؤول عنه؟! هل كان فكتور هيغو سعيدًا إلى حدود النشوة الإنسانية في قصيدته "واترلو" أمام الجثث والجرحى وصور الدمار والمعاناة، أم تراه كان يرى الجثث بعين أخرى لا تمت إلى الإنسانية بصلة، ويرى أبطاله وانتصاراتهم فقط من ثقب وطنية يضيق ولم ير الإنسانية البائسة وقيمها المنتهكة!؟ وهل المتنبي كان كذلك في وصف حروب سيف الدولة، وغيرهما وغيرهما من شعراء ملاحم الحروب وشعر البطولة؟! إنك تسأل وفيك قبول هنا ورفض هناك وإقبال على هذا وصد عن ذاك.. وحين تغيب عنك تلك المشاهد التي تسجل البؤس الإنساني وعجز العقل والسياسة عن الرؤية، وتلاحقك الأحداث والصور والذكريات والمعاناة التي تجعل إنسانًا ينسى عقله والبؤس الذي رآه والمعاناة القاسية التي مر بها ويندفع نحو الحربة والبندقية لينال الحرية، ويتحول إلى كتلة عنف تتدحرج في الشوارع والحقول سعيًّا وراء "النصر والثأر..إلخ، حينذاك يحق لك أن تدهش وتسأل لماذا الظلم، لماذا القهر، لماذا العدوان، لماذا الاستلاب وانتهاك الحريات والحرمات وكرامة الإنسان، ولماذا يكون الإنسان على هذه الصورة، أو يصبر على حال الموت أفضل منها.؟! ولماذا يخوض الشعر في مناقع الدم والبؤس، أو يؤخذ عليه إن هو خاضها من أجل الحق والحرية والعدل والإنسان؟! إن كل ذلك من نتاج الحياة التي فيها كل شيء وتزخر بمتناقضات وصراعات على رأسها صراع أبدي بين الخير والشر ربما كان عصب الحياة وبعض روحها.
لكن لا يمكن تجريد الحرب، كل حرب، من دوافع قد تكون صحيحة وصحيّة فحرب ضد العنصرية والاحتلال والإمبريالية والفاشية والطغيان لها ما يسوّغها ويدخلها في إطار إحقاق الحق وترسيخ العدل والمحافظة على السلم، يلجأ إليها الإنسان مضطرًّا "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) البقرة 216)
وفي ختام كلامي هذا عن الشعر بمناسبة يومه العالمي، يطيب لي أن أستعيد حقيقتين: حقيقة أن اللغة العربية هي من أغنى اللغات الحية وأقدمها وأبقاها تداولًا وتواصل قديم بجديد، وهي لغة الشعراء الذين جعلوا من الشعر ديوان العرب.. وهل الشعر إلا فن التعامل مع اللغة بفن واقتدار وإبداع؟! وأستعيد بهذه المناسبة قولًا يحضرني لجدنا الكبير امرئ القيس بن حجر الكندي أقدم الشعراء العرب الذين وصلنا شعرهم:

تَأَوَّبَني دائي القَديمُ فَغَلَّسا أُحاذِرُ أَن يَرتَدَّ دائي فَأُنكَسا
فَيارُبَّ مَكروبٍ كَرَرتُ وَراءَهُ وَطاعَنتُ عَنهُ الخَيلَ حَتّى تَنَفَّسا
وَيا رُبَّ يَومٍ قَد أَروحُ مُرَجَّلًا حَبيبًا إِلى البيضِ الكَواعِبِ أَملَسا
يَرُعنَ إِلى صَوتي إِذا ما سَمِعنَهُ كَما تَرعَوي عيطٌ إِلى صَوتِ أَعيَسا
أَراهُنَّ لا يُحبِبنَ مَن قَلَّ مالُهُ وَلا مَن رَأَينَ الشَيبَ فيهِ وَقَوَّسا
وَما خِفتُ تَبريحَ الحَياةِ كَما أَرى تَضيقُ ذِراعي أَن أَقومَ فَأَلبِسا
فَلَو أَنَّها نَفسٌ تَموتُ جَميعَةً وَلَكِنَّها نَفسٌ تُساقِطُ أَنفُسا
وَبُدِّلتُ قَرحًا دامِيًّا بَعدَ صِحَّةٍ فَيا لَكِ مِن نُعمى تَحَوَّلنَ أَبؤُسا