تنفطر قلوبنا ألما وحسرة على ما يجري في الداخل العراقي والسوري، لا أعني فقط عمليات القتل التي يمارسها الإرهابيون، بل أيضا تدمير ونهب التراث في البلدين الشقيقين. ومن قبل نوهت في أكثر من مقال حول ما يتعرض له التراث السوري من عمليات تدمير ونهب وسرقة.
وخلال الشهور العشرة الأخيرة ارتكب تنظيم داعش الإرهابي العشرات من الجرائم ضد التراث العراقي، أبرزها وطبقا لتقارير منظمة اليونسكو:
- تدمير مدينة الحضر الأثرية، شمالي العراق والتي يعود إنشاؤها إلى أكثر من ألفي عام، وهي مدينة محصنة تم الحفاظ عليها بشكل جيد إجمالا، وتقع في صحراء محافظة نينوى شمالي العراق. وهي واحدة من أربعة مواقع عراقية مدرجة على لائحة اليونيسكو للتراث العالمي.
- نمرود، وقد تعرضت المدينة لـعملية "تجريف" في الخامس من مارس الحالي من قبل التنظيم باستخدام جرافات وآليات، فيما اعتبرته اليونيسكو "جريمة حرب".
ونمرود مدينة أثرية آشورية تقع جنوب شرقي الموصل، ومرشحة للإدراج على لائحة اليونيسكو للتراث العالمي، ويعود تاريخها للقرن الثالث عشر قبل الميلاد، وكانت تعرف باسم "كلحو".
- متحف الموصل الذي يعد ثاني أهم المتاحف العراقية بعد المتحف الوطني في بغداد. ونشر التنظيم المتطرف في 26 فبراير الماضي شريطا مصورا يظهر قيام عناصره بتحطيم آثار وتماثيل داخل المتحف، يعود بعضها إلى نمرود، وأخرى من مدينة الحضر الأثرية، التي يعود تاريخها للعهد الروماني، ومدرجة على لائحة التراث العالمي. وبحسب مسؤولين في قطاع الآثار العراقي، دمر التنظيم نحو 90 قطعة وتمثالا، غالبيتها قطع أثرية أصلية.
- مرقد النبي يونس، الذي قام أفراد التنظيم في 24 يوليو من العام الماضي بتفخيخه ونسفه بالكامل أمام جمع من الناس.
- مكتبة الموصل، وقد أحرقت الآلاف من الكتب والمخطوطات النادرة التي تضمها في عملية همجية قام بها أفراد التنظيم في فبراير الماضي، ولم يتضح حجم الدمار الذي تعرض له مبنى المكتبة، ووصفت اليونيسكو حرق الكتب بأنها مرحلة جديدة في عملية "تطهير ثقافي" يقوم بها التنظيم.
- قلعة تلعفر، التي تعرضت على أيدي أفراد التنظيم لعمليات تدمير، ورغم عدم توافر معلومات تفصيلية لما حدث للقلعة إلا أن بعض الصور التي بثت عبر مواقع التواصل الاجتماعي في شهر يناير الماضي تظهر أن أضرارا كبيرة لحقت بجدران القلعة.
- تمثال الشاعر العباسي "أبو تمام " في الموصل، وقد تعرض للتدمير في شهر يونيو من العام الماضي، عقب سيطرة التنظيم على المدينة، وهذه الجريمة تذكرنا بجريمة ارتكبت ضد الشاعر العظيم "أبو العلاء المعري" ، في فبراير من العام الماضي، حيث أطاح الإرهابيون برأسه وأسقطوه من قاعدته في بلدة معرة النعمان بشمال سوريا.
- الكنيسة الخضراء، التي تعرضت للتدمير في أواخر سبتمبر أو مطلع أكتوبر الماضي، وهي كنيسة كبيرة تعود إلى نحو 1300 عام في تكريت، كبرى مدن محافظة صلاح الدين شمالي بغداد. وهي كنيسة أحوداما، وتعرف باسم "الكنيسة الخضراء".
وكانت مسرحا لمجزرة تعرض لها المسيحيون على يد المغول خلال عام 1258.
- مرقد الأربعين في مدينة تكريت، الذي تعرض للتفجير في سبتمبر الماضي، وكان المرقد يضم رفات 40 جنديا من جيش الخليفة عمر بن الخطاب خلال الفتح الإسلامي لبلاد ما بين النهرين عام 638 قبل الميلاد.
ويبدي العالم انزعاجه من عمليات التدمير التي تتعرض لها الآثار العراقية مثلما حدث مع الآثار السورية التي بدورها تنال اهتمام اليونسكو، حتى أن المنظمة الدولية وضعت خطة لإنقاذ التراث السوري بالاتفاق مع الاتحاد الأوروبي، إلا أن الجريمة ذاتها ترتكب ضد ذاكرة دولة عربية ثالثة، وهي ليبيا الشقيقة منذ فبراير عام 2011، في ظل حالة من التجاهل الدولي .
والغريب في هذا الشأن أن البعض ينظر إلى ليبيا على أنها مجرد دولة صحراوية بلا ماض، فقط حاضر يكاد ينسحق تحت وطأة الإرهاب، والحقيقة أن القُطر الليبي الشقيق يحتشد بكنوز أثرية ربما لا مثيل لها في أي بقعة أخرى في العالم، لا في لمساتها الفنية الفريدة ولا عراقتها ،
فليبيا من الجغرافيات التي قلما توجد حضارة بحر متوسطية وشرق أوسطية لم تخلف وراءها بصمات جلية فيها ، من هذه الحضارات الحضارة الجرامانتية والأمازيغية والإغريقية والرومانية وفترات الحكم البيزنطية والعربية والحضارة الإسلامية، وصولاً لفترات الحكم العثماني والإيطالي.
وتوجد في ليبيا مدن أثرية كاملة وخاصة من فترات الحضارتين الإغريقية والرومانية من قبيل قورينا "شحات" سوسة "أبولونيا"- توكرة - لبتوس ماغنا "لبدة الكبرى" - صبراتة - طلميثة. كذلك مواقع من الحضارتين في عدة مناطق في ليبيا من قبيل برنيق ويسبريدس في بنغازي. كذلك هناك مواقع خاصة بالحضارة الجرمانتية في جنوب غرب البلاد مثل مدينة جرمة الأثرية اضافة لعدة فترات مختلفة منها العربية والإسلامية في مواقع في طرابلس، اجدابيا، درنة، الخمس، طبرق، زويلة، وأيضاً مواقع من الحضارة الليبية "الأمازيغية" خاصة في مناطق جبل نفوسة أو الجبل الغربي.
وتحتضن مدينة قورينا "شحات" معبد الإله زيوس والذي يعتبر أكبر معبد إغريقي بعد الباريثنون في أثينا، كذلك تعتبر مدينة لبتوس ماغنا "لبدة الكبرى" أكبر مدينة رومانية كاملة لا تزال موجودة حتى يومنا بعد مدينة روما.
وطبقا لتصنيف منظمة اليونسكو توجد خمسة مواقع مصنفة كمواقع تراث إنساني، وهي : شحات، لبدة الكبرى، غدامس، جبال أكاكوس، وجبال أكاكوس وتحتوي على مجموعة فريدة من المنحوتات واللوحات المرسومة على الصخر، يعود بعضها إلى 21 ألف عام والتي تعكس ثقافة وطبيعة التغيرات في المنطقة، وتضم حيوانات مثل الزرافات والجمال والفيلة والأحصنة والنعام وأيضا تتضمن صور رجال يمارسون أنشطة مختلفة كالرقص والعزف.
هذه الكنوز تتعرض لخطر محدق ، مثلما هو التراث العراقي والسوري ، وعلى العالم أن يتخذ خطواته السريعة والحاسمة لحماية الذاكرة الليبية التي هي جزء من الذاكرة الإنسانية من النهب والتخريب.
وفي ظل الاضطرابات التي تشهدها ليبيا منذ فبراير 2011، والتراث الليبي مستهدف تماما بالسرقة والتخريب والتدمير، ففي مايو 2011 تعرضت الوديعة المعروفة باسم كنز بنغازي للسرقة من المصرف التجاري الوطني.
ويحتوي كنز بنغازي على قرابة ستة آلاف قطعة من رؤوس تماثيل وقطع نقدية تنتمي لعصور مختلفة وحلى ومجوهرات وقطع مختلفة الأشكال والأنواع والأحجام.
كما تعرضت عدة تماثيل وقطع أثرية وأضرحة لسرقات ومحاولات للسرقة من مواقعها الأصلية في مناطق صبراتة ولبدة وشحات، وبيع بعض هذه القطع في الأسواق العالمية.
وفي إطار حالة الفوضى قام بعض الأشخاص بهدم وتجريف كنيسة أثرية من العهد البيزنطي في مستوطنة وادي عين خارقة قرب البيضاء لتدمير، وهدف هؤلاء الأشخاص الاستيلاء على الأرض المقامة عليها الكنيسة ! كما تتعرض بعض المناطق الأثرية والتي تحتوي على بقايا مستوطنات أو مقابر رومانية وإغريقية في شرق البلاد وغربها إلى تعديات من قبل مواطنين طامعين في تقسيم تلك الأراضي وبيعها.
وفي سبتمبر 2013 أقدمت جماعة متطرفة بتدمير مقابر زويلة التاريخية السبعة في جنوب شرق ليبيا. ومنذ عدة أشهرأقدم الإرهابيون على تدمير لوحات وصور فنية في منطقة أكاكوس جنوب ليبيا يعود تاريخها إلى عشرة آلاف سنة، وكانت من ضمن التراث الموثق في منظمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة، كما دمروا مقابر الأسرة القرملية في جامع الباشا بمدينة طرابلس وتمثال الغزالة الذي نحته الفنان الإيطالي أنجلو فانيتي مطلع ثلاثينيات القرن العشرين.
وأخيرا انتبهت صحيفة غربية إلى ما يجري وهي صحيفة الأوبزرفر البريطانية، حيث وجهت تحذيرا للمنظمات الدولية من أن تنظيم داعش المتطرف قد يقدم على تدمير خمسة مواقع أثرية في ليبيا. وبدوره حذر الكاتب الليبي إبراهيم الكون خلال مقابلة تليفزيونية مؤخرا من أن خطوة المتطرفين القادمة حتما ستكون تدمير السرايا الحمرا التي يخططون لنسفها والتي تعد من معالم طرابلس، ونبه إلى أن آثارا كثيرة سرقت وبيعت عبر تونس .
وألح على ما قلته في أكثر من مقال سابق، أن تلك المأساة التي تتعرض لها الذاكرة العربية في العراق وسوريا وليبيا في حاجة إلى تحرك دولي عاجل من قبل مجلس الأمن ومنظمة اليونسكو، بل إن الأمر من الخطورة يصل إلى حد ضرورة عقد قمة دولية لمجابهة جرائم الحرب هذه ، فحماية الذاكرة الإنسانية لا تقل أهمية عن حماية المناخ والتي وقعت بشأنها اتفاقية دولية ونظمت من أجلها قمة في البرازيل عام 1992والتي سميت بقمة الأرض، وقمة ثانية في نيويورك العام الماضي.
ولا ننسى أن مخزون الجغرافيا العربية من كنوز تراثية، هو الأهم ربما - كما وكيفا - على مستوى التراث الإنساني ، وأن الذاكرة العربية التي تجسد الآثار محتوياتها ترتبط بالحضارات الأعرق للبشرية، وبالديانات السماوية الثلاث، لذا حمايتها مسئولية العالم كله، وليس العرب وحدهم .

محمد القصبي