[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedaldaamy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]أ.د. محمد الدعمي[/author]
للمرء أن يفترض وجود ثمة مأزق فكري وجدلي يشوب علم الاجتماع العربي. هو مأزق لم يبرأ مختصونا منه منذ أبو علم الاجتماع، ابن خلدون، حتى الراحل الدكتور علي الوردي.
وخلاصة المأزق تتجسد في أن الاجتماعيين العرب، تتبعًا لخطى ابن خلدون، كانوا دائمًا مضادين ومقاومين لنزعة البداوة عند العرب. ربما كان ابن خلدون بربريًّا لا يحب البداوة ولا العرب، كما أفعل بسبب ما يسري في دمي من تقديس للبداوة وللعروبة، بيد أن المهم في خطابه كان ينطوي على ازدراء للبداوة، وهو ازدراء وصل حد وصفه البدو بلفظ "الأعراب" كناية عن نظرة دونية تميز بين البداوة والمدنية أو المدينية.
والحق، فإن البداوة برهنت على أنها أسلوب حياة يستحق الملاحظة والرصد، بدليل افتتان الغربيين بها حد التقديس، كما فعل المستشرقون "ديكنسون" Dickinson و"دوتي" Daughty و"فلبي" Philby، من بين آخرين. لقد غمر هؤلاء أنفسهم في عالم البداوة خاصة في العصر الحديث مستجيبين لرغبة غريزية أولية تسري في دماء البشر، وهي رغبة العودة إلى الطبيعة الأولية، وهي في وضع تكون فيه بقوة البشر أو أقوى منه بقليل محيلة الوجود الآدمي إلى حال من الصراع المتواصل من الرحم إلى اللحد. هذا هو الصراع الذي لا يسكن ولا يسمح للإنسان البدوي أن يستكين. لذا وصف الكتاب المقدس البدوي العربي بـ"إسماعيل التائه" Wondering Ishmael.
ليس هذا الوصف بمثلبة تخص الإنسان العربي، بدويًّا، ذلك أن هذا الإنسان كان دائمًا مرآة البيئة الصحراوية التي لا تتركه إلا بعد أن تنحت قواها في شخصيته لتحيله إنسانًا خاطف الحركة حاد النظر وحاد التفكير، لا يضاهيه أي إنسان، عبر العالم، في خياليته وشاعريته ورومانسية ذهنيته. لذا بز الإنسان البدوي البشر أجمعين في السجايا أعلاه، من ملاعبة السيف والرمح الخاطف إلى التيه في "وادي عبقر" حيث يتم التواصل بين العقل البشري وأشباح وشياطين الشعر.
بيد أن هذا الصفاء البدوي لا يلبث وأن يتلوث حال خروج البدوي من بيئته القاسية إلى الأرائك الناعمة وعالم الرفاهية والراحة. لذا تراه ينقلب من ذلك الإنسان الصافي السريرة إلى حال شاذة مشحونة بأنواع العواطف السلبية والضغائن، فتترك آثارها على ذلك العقل النقي المفصول من تيار الزمن لتحيله إلى حال من نصف البداوة ونصف المدنية والتحضر، فإذا به يتحول إلى شخصية لا يحدسه عليها أحد، بسبب اختلاف العناصر والبيئات.
ربما كان هذا هو جوهر نقد ابن خلدون ومن لف لفه عبر التاريخ في نقدهم البداوة والوجود البري. البداوة بالنسبة لابن خلدون هي العمود الفقري لبناء الدول، لأن البدو أشداء وسريعو الحركة والاستجابة والرد. ولكن ما أن تلوثهم المدنية ويتوسدوا الحرير تتحول سجاياهم الفاضلة إلى رذائل أحيانًا، فتراهم نماذج مطلقة للاختلاط والارتباك و"الزئبقية" غير القابلة على الإحاطة والإذعان.
وهكذا تسقط الدول والإمبراطوريات مع تواهن بُناتها وحماتها من البدو الذين تجرفهم لذائذ الحياة والعيش الرغيد درجة إفسادهم. وهكذا تطمس فضائل الوجود البدوي في مياه الحضارة والتمدن الباردة لتحيل الإنسان البدوي الصافي إلى إنسان مختلط ومرتبك ومتوتر. إنسان لا تستطيع التقاط تعابير وجهه أو التعامل معه لأن اتصاله "بوادي عبقر" لا يكون فاعلًا مع اتصاله بالشارع المكتظ وبالسيارة وبالطائرة في عصر متناغم مع تقسيمات الساعة وذبذبات الماكينة، بدلًا عن تذبذبه في البراري على ذبذبات المواسم والبحث عن الماء والكلأ.
إن تلوث البداوة يحيلها إلى نقمة بسبب تناقض الوجود الآدمي في الخيمة ووجوده في البنايات المبردة المتعددة الطوابق. لست أدعو لإبقاء البدو الرحل بدوًا رحلًا، وإنما أفترض أن الاجتماعيين العرب بنوا نظرياتهم، تعسفًا، على أكتاف البداوة، عبر تشويهها والتحذير منها والدعوة إلى تجنب مزاياها غير الملوثة. لقد فعل هؤلاء الاجتماعيون فعلهم درجة أن العربي اليوم يخجل من أصوله البدوية، فينكرها ويشجبها لـ"يتبغدد"، كما يقول اللبنانيون، كناية عن التمدن!