” من يريد أن يقاوم تدخلا أميركيا وغربيا في المنطقة فليفعل (مع العلم أنه أيضا في ذلك يتقاطع مع داعش وأخواتها الذين يدعون أنهم يحاربون "الغرب الكافر" بينما يقتلون من المسلمين والعرب أكثر مما يقتلون من أعدائهم). ومن يريد أن يعارض نفوذا إيرانيا في المنطقة لا يتسق مع مصالحه فليفعل. لكن علينا وسط كل هذا ألا نروج لكثير من "أنصاف الحقائق" حول التنظيمات والجماعات الإرهابية،”
ـــــــــــــــــــ

يلعب الإعلام دورا رئيسيا في تشكيل الرأي العام أحيانا من خلال التضخيم أو التركيز على أنصاف الحقائق أو حتى "التضليل الإعلامي" التام في سياق تعبئة وحشد لغرض سياسي معين. ولأن كل ما يتعلق بالجماعات الإرهابية والتنظيمات المتشددة من أخبار ومعلومات يصعب التأكد منه أو تحري دقته يصبح من السهل "بلع" المغالطات الإعلامية وترسيخها في أذهان العامة. ويضيف إلى تلك الضبابية التي تسهل "الدس" المعلوماتي أن وسائل الإعلام التقليدية الرئيسية، بما فيها وكالات الأنباء، تنقل أخبار تلك الجماعات والتنظيمات غالبا عن حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي توصف إعلاميا بأنها "مقربة من الجماعات الجهادية" أو "حسابات تنشر أخبار الجماعات الإسلامية".
التطرف في بلداننا حقيقة لا يمكن انكارها، وهناك عوامل كثيرة تدفع بعض الشباب نحو تدمير حياتهم وحياة الآخرين تحت وهم "الدفاع عن الدين" و"الجهاد في سبيل الله". وقد اسهب المحللون والمعلقون في رصد وتحليل تلك العوامل، من الفقر والتهميش الاجتماعي إلى اعتداءات الغرب على بلاد المسلمين وعنصريته تجاه الجاليات المسلمة فيه، مرورا بالتفسيرات الأصولية المتحجرة للنصوص الدينية وفي القلب منها طبعا الاحتلال الصهيوني لفلسطين. ورغم أن كثيرا من الباحثين ـ خاصة الغربيين منهم ـ خلصوا إلى أن جماعة "الإخوان المسلمين" هي الجذر الأساسي لكل تلك الجماعات إلا أن انخراط الإخوان في السياسة في العدد من البلدان، وركوبها موجة التغييرات المعروفة بوصف "الربيع العربي" طمس هذه الحقيقة. وجاء ذلك مناسبا لتوجه غربي، يدعمه ـ عمدا أو بحسن نية ـ ترديد بعض العرب والمسلمين له، حول ما يسمى بالإسلام المعتدل والإسلام المتشدد. وإذا كان ذلك يخدم أهدافا غربية، واسرائيلية في الواقع تبرر "يهودية" دولة الاحتلال الصهيوني في فلسطين التي يصعب تسويقها دون محيط "ديني"، فليس بالضرورة أنه في مصلحة شعوب المنطقة التي ستكون وقود أي صراع بين اعتدال وتطرف، أو سنة وشيعة، أو مسلمين وغير مسلمين ... الخ.
تلك الأطراف التي يهمها تضخيم "داعش" والجماعات المماثلة له تستفيد من تضخيم الأمور ونشر نظريات المؤامرة، حتى لو كان في بعضها قدر من الصحة ـ فكما يقال: نصف الحقيقة أخطر من الكذب. وبعد ما يردده البعض من أن "داعش" وأخواتها صناعة أميركية تستهدف تشويه الإسلام والمسلمين نسمع الآن أن داعش وأخواتها أيضا صنيعة إيران بهدف تشويه المسلمين السنة. وهكذا طفت على السطح أنباء عن عمليات لداعش في اليمن ضد الحوثيين وقبلها ادعاء صراع في ليبيا بين داعش ومبايعيها وجماعات متطرفة أخرى. كذلك تبنى تنظيم داعش العملية الإرهابية في العاصمة التونسية التي راح ضحيتها عشرات السائحين في متحف تونس. ليس المقصود هنا بالطبع القول بأن من يقومون بكل عمليات الإرهاب تلك من تونس ومصر إلى اليمن والعراق وسوريا ليسوا إرهابيين، ولا محاولة الوقوع في فخ المنظرين من محللي وخبراء الإرهاب الغربيين واشباههم الناطقين بالعربية عن "التمايز الأيديولوجي والاستهداف التكتيكي المغاير ..." لدى تلك الجماعات. ففي النهاية، وبغض النظر عن تسمياتها (داعش، أنصار الشريعة، أنصار بيت المقدس، بوكو حرام، الشباب ... الخ) تشترك كلها في أنها جماعات إرهابية متطرفة ترفع شعار الدين.
أما استفادة قوى أو أطراف من الأعمال الإرهابية لتلك الجماعة أو تلك، فهي تقاطعات لا تحتاج إلى تفسير نظريات المؤامرة ولا تعني بالضرورة أن تلك القوة او ذاك الطرف مسؤول عن ظهور تلك الجماعة المتطرفة أو تلك. فذلك ينفي الأسباب الموضوعية لظهور تلك الجماعات من بيننا، وما لدينا من مشاكل تسهم في ترعرع أفكار التطرف والإرهاب. ومن المهم التأكيد على أن "لوم الآخر" لم يكن ابدا حلا للمشاكل، فما لم نشخص العيوب فينا لن نتمكن من العلاج والإصلاح. فليكن ان الأميركيين والأوروبيين يريدون تشويه الإسلام والمسلمين، وليكن أن لإيران مصلحة في تشويه السنة (كما يروج الأتراك لتحقيق مصالحهم النفعية الضيقة)، وليكن حتى أن أطرافا إقليمية تستفيد من وجود تلك الجماعات والتنظيمات إلا أن كل ذلك لا يعني أن نستكين على طريقة "ما باليد حيلة". بل باليد أكثر من حيلة، ومسؤولية ضغط داعش واخواتها حتى تجف وتذبل هي مسؤوليتنا جميعا ـ ومن يدافعون عن الدين وحمايته في المقدمة. وأتصور أن ذلك يتطلب أيضا عدم التهاون أو التساهل مع جماعات "الإسلام السياسي"، فخلط الدين بالسياسة هو سبب الأصلي لكل تلك المشاكل.
من يريد أن يقاوم تدخلا أميركيا وغربيا في المنطقة فليفعل (مع العلم انه أيضا في ذلك يتقاطع مع داعش وأخواتها الذين يدعون أنهم يحاربون "الغرب الكافر" بينما يقتلون من المسلمين والعرب أكثر مما يقتلون من أعدائهم). ومن يريد أن يعارض نفوذا إيرانيا في المنطقة لا يتسق مع مصالحه فليفعل. لكن علينا وسط كل هذا ألا نروج لكثير من "أنصاف الحقائق" حول التنظيمات والجماعات الإرهابية، وإلا انتهينا في صف يوازي تماما من يرون في تلك الجماعات والتنظيمات "مدافعين عن الدين والطائفة" وأذكينا نيران الطائفية والعنف المتسربل بالدين زورا وظلما.

د.أحمد مصطفى
كاتب صحفي مصري