عالجت ظاهرة القمع والخوف واتكأت على أسبابها وبينت مظاهرها في الحياة العربية

عرض ـ حسام محمود:
تعد رواية الزيني بركات لجمال الغيطاني من الروايات البارزة في الروايات العربية التي عالجت ظاهرة القمع والخوف واتكأت على أسبابها وبينت مظاهرها المرعبة في الحياة العربية . ليضع الغيطانى صورة مرعبة لكبير البصاصين الشهاب الأعظم زكريا بن راضي ووالي الحسبة الزيني بركات . ويكفي أن نقرأ عن تعذيب التاجر علي أبي الجود وتدرج الزيني في التفنن بتعذيبه ليحصل منه على المال . والأدهى أن وسيلة إرغامه على الإقرار كانت بتعذيب الفلاحين أمامه عذاباً منكراً بغية إخافته وترويعه على مدى سبعة أيام, وذبح ثلاثة من الفلاحين أسندت رقابهم إلى صدر علي بن أبي الجود, والزيني يدخل ويخرج محموماً مغتاظاً يضرب الحجر بيديه . يسقط هذه الصورة على الحاضر بل يسقط الحاضر عليها فيبني منها ما هو أقل إيلاماً من الحاضر . قدمت الرواية نماذجا مرعبة ولكنها مشوهة منخورة في الوقت نفسه لأنها من وجهة نظر الرواية لا تتسلح بقيم تجعلها قادرة على مواجهة التغيرات المحتملة .
شهادة تاريخية
جاءت "الزيني بركات" نتيجة لعوامل عديدة . أهمها تجربة معاناة القهر, حيث كانت هناك تجربة ضخمة تهدف إلى تحقيق العدالة الاجتماعية , تهدف إلى تحقيق أحلام البسطاء , ويقودها زعيم كبير هو جمال عبد الناصر, ولكن كان مقتل هذه التجربة هو أسلوب معالجة قضية الديمقراطية على حد قول الغيطانى. ويرى الكاتب أن المصريين عانوا الرقابة في الستينيات وأسلوب التعامل البوليسي, فجاءت هذه الرواية بحثا فى التاريخ خاصة الفترة المملوكية التي وجد فيها الغيطانى تشابها كبيرا بين تفاصيلها وبين هذا الزمن فى الستينات بمصر , حيث كانت مصر سلطنة مستقلة تحمي البحرين والحرمين . وقد انتهت هذه السلطنة في عام 1517 بهزيمة عسكرية كبيرة في مرج دابق شمال حلب بهزيمة المماليك أمام الأتراك العثمانيين . وعندما طالع الغيطانى مراجع شهود العيان الذين عاشوا هذه الفترة ذهل من تشابه الظرف بين هزيمة 67 والأسباب التي أدت إليها وبين هزيمة القرن السادس عشر , وأوصله هذا فيما بعد إلى ما يمكن أن يسمى باكتشاف وحدة التجربة الإنسانية في مراحل كثيرة من التاريخ ، حتى إن بعدت المسافة . على سبيل المثال : الألم الإنساني واحد . فالشعور بالحزن هو نفسه الذي كان يعبر عنه المصري القديم أو البابلي القديم . ومصر نتيجة لاستمرارية تاريخها وعدم انقطاعه تتشابه فيها الظروف من فترة إلى أخرى . وكان الغيطانى مهموما بهاجس الرقابة وهاجس المطاردة قبل دخوله المعتقل إلى درجة كتابته عددا من القصص القصيرة عن السجن نشرت منها قصة (رسالة فتاة من الشمال) , وقصة القلعة , وكتبت رواية كاملة عن فكرة المطاردة وظروف المطاردة . وكتب قصة اسمها هداية أهل الورى لما جرى فى سجن المقشرة , وهو من السجون الشديدة البشاعة في العصر المملوكي .
كواليس السلطة
حمل عنوان الرواية مفارقة بين الشعار الاسمي (الزيني بركات) والممارسة الفعلية. فالزيني لقب أطلقه السلطان على موسى بن بركات ليصاحبه مدى حياته دلالة على ورعه وتقواه وتفانيه في خدمة السلطان , وامتناعه عن تولية الحسبة إلا بتدخل علي بن أبي الجود باعتباره شيخا عارفا بالأصول والفروع يمثل السلطة الدينية والصوفية . وتعتبر تزكية علي بن أبي الجود شهادة كبرى في حق تعيين موسى بن بركات واليا للحسبة على القاهرة . ومع ذلك نجد أن هذا الامتناع الوهمي الذي شاع بين الناس يغطي حقيقة جوهرية , وهي أن الزيني بركات اشترى هذا المنصب بثلاثة آلاف دينار رشوة بعد أن تدخل له أحد الأمراء عند السلطان . وبالتالي ، فكل أعماله الدالة في الظاهر على الخير كتعليق الفوانيس وتسعير البضائع ، والضرب على يد المحتكرين والوسطاء , و إزالة الضرائب , وتثبيت الاستقرار والأمن , والتي تزين صورته بين الخلق حتى اعتبر شخصية أسطورية خارقة مثالية ، انقلبت إلى الشر والظلم وإيذاء الرعية وتخريب بيوت الأبرياء وتعذيب الفلاحين ونشر الرعب والخوف بين الناس بجهازه الخطير في البصاصة وقمع المثقفين (سعيد الجهيني) , والتنكيل بالمظلومين بدون قضاء ولا محاسبة . إنه رمز السلطة القمعية والإرهاب السياسي والعنف والطغيان والاستبداد والتضحية بالشعب من أجل خدمة السلطة والمصالح الشخصية . وقد بني الهيكل الروائي على سبع سرادقات ومقدمة وخاتمة , واختيار سرادق بدلا من الفصول يدل على التركيب السينمائي لهذه الرواية ، إذ يمكن توزيعها إلى سبع مناظر مشهدية أو فصول درامية إما أنها متعلقة بالمكان أو الشخوص . وتبلغ عدد صفحات الرواية مئتين وسبعا وثمانين (287) صفحة . ويتبين أن الغيطاني اختار السرادقات بمثابة لوحات فنية مستقلة يمكن بسهولة تقطيعها وتركيبها في مونتاج روائي يخلخل السرد ويكسر الزمن لخلق أفق جديد للقراء . وقد صرح الغيطاني في شهاداته أنه لم يكتب الزيني بركات كرواية تاريخية وهي لم تعتبر كذلك رواية تاريخية في كل اللغات التي ترجمت إليها هذه الرواية سواء في الروسية أم الفرنسية أم الإنجليزية ، فلم يعاملها أحد على أنها رواية تاريخية، إنما عوملت على أساس أنها رواية ضد قمع الإنسان في أي زمان ومكان , ولفهم النواحي الخفية عند السلاطين والأمراء والمستبدين ونقاط ضعفهم إلى غير ذلك من الأمور التي لا تذكر في التاريخ الرسمي , ويركز عليها التاريخ الشعبي والمجتمعي .