في أوائل ديسمبر، وبعد أسابيع من الاضرابات وحواجز الطرق التي دعت إليها المعارضة السياسية، بدأ منتجو الألبان من منطقة رانجبور ، في شمال بنجلاديش ، بالاحتجاج على تعطيل أعمالهم عن طريق سكب الحليب على الطرق السريعة. فقد فشلوا لعدة أسابيع في توصيل إنتاجهم من الحليب إلى مصانع التجهيز والتعبئة والتغليف في العاصمة، وبدلا من ذلك ، اضطروا لبيعه لمصانع الحلويات والمطاعم المحلية الصغيرة. وكان من نتيجة ذلك أن العرض فاق الطلب بكثير .
وفي جميع أنحاء بنجلاديش، صار يتم تفريغ ما معدله نصف مليون لتر من الحليب في كل يوم دعت فيه المعارضة إلى اضراب عام أو الحصار. وبعد العديد من هذه الاحتجاجات منذ أواخر اكتوبر الماضي، أمست صناعة الألبان في حالة يرثى لها، وأصبح كثير من صغار المزارعين ، مثل أولئك الموجودين في رانجبور ، ممن اقترضوا المال لشراء مواشيهم غير قادرين على إطعام أبقارهم ، بل بدأوا في بيع الحيوانات والبحث عن سبل أخرى لكسب العيش .
لقد باتت رفوف المتاجر الكبيرة في دكا شبه خاوية، حاملة القليل من الحليب الطازج ، مع عدم وجود الزبدة ، باستثناء العلامات باهظة الثمن بشكل صادم المستوردة من الهند و أستراليا.
يذكر أن الأزمة اندلعت بعد اعتراض المعارضة ، بقيادة حزب بنجلاديش القومي وحليفه الجماعة الإسلامية ، على عقد انتخابات وطنية ما لم تسلم الحكومة أولا السلطة الى هيئة انتقالية محايدة ، خشية من تزوير الانتخابات. وعندما رفض حزب رابطة عوامي الحاكم ، دعت زعيمة المعارضة خالدة ضياء الى تنظيم سلسلة من الاحتجاجات التي تشل البلد.
وأطلق أنصار حزب بنجلاديش القومي والجماعة الإسلامية العنان لغضبهم على أي شخص يتحدى الاضرابات ، وتدمير الطرق و إتلاف خطوط السكك الحديدية، و إحراق الحافلات - وقتل نحو 200 شخص منذ أواخر أكتوبر، وفقا لما ذكرته صحيفة الاندبندنت البريطانية .
محنة مزارعي الحليب ليست سوى مجرد مثال واحد من الركام الهائل الناجم عن الفوضى المحيطة بالانتخابات . فقد تمت عرقلة طرق التوريد إلى العاصمة ، ففسد الحليب على الطرق وتعفنت الخضراوات في الحقول في مختلف الأنحاء. حتى صناعة الملابس ، التي تشكل محركا رئيسيا للاقتصاد ، تعرضت للخطر بسبب تأخير تسليم للمشترين الدوليين. وقال شهيد الله العظيم ، نائب رئيس جمعية بنجلاديش لمصنعي ومصدري الملابس لرويترز في وقت سابق من الشهر الماضي ان ما يصل الى مليار دولار طلبات الشراء عرضة للخطر في الأسابيع المقبلة إذا لم يعد الاستقرار .
ولكن مع تعثر المفاوضات السياسية ، قررت المعارضة مقاطعة الانتخابات . لذلك عندما جرى الاقتراع يوم 5 يناير ، مثل كثير من زملائي المواطنين ، لم أكلف نفسي عناء الإدلاء بصوتي . وترشح المرشح الوحيد في دائرتي الانتخابية - وهو حليف لحزب رابطة عوامي - بلا منازع . وتنافس أيضا نحو 152 عضوا آخرين في البرلمان من حزب رابطة عوامي والأحزاب المنتسبة بدون أي منافسة ، فيما واجه باقي المرشحين الـ 147 من رابطة عوامي مرشحين مستقلين ضعفاء. ( في النهاية، فاز حزب رابطة عوامي بـ 232 من أصل 300 مقعد). وأصبحت بنجلاديش الآن في حالة غير مسبوقة بوجود برلمان بلا معارضة حقيقية .
إلى أي مدى يمكن أن تصمد هذه الحكومة في السلطة؟ بما فيه الكفاية لدورة كاملة ، كما يتبين، مهما كان الوضع مختلا. وكانت رئيسة مجلس الوزراء الشيخة حسينة ذات حس سليم عند تشكيل الحكومة الجديدة من شخصيات جديدة نسبيا وغير ملوثة، بعيدا عن العديد من الوزراء المتورطين في الفساد. وبينما عانت رابطة عوامي من ضربة شعبية بتنظيم انتخابات مع عدم وجود منافس خطير، و يبدو أن حزب بنجلاديش القومي قد خرج من التجربة أكثر مصداقية .
وكان العديد من الناس قد نفروا من موقفه المتشدد وتكتيكاته العنيفة، فالحزب رفض قطع صلاته بالجماعة الإسلامية المتشددة، على الرغم من أن الاعتقاد الواسع بأن الجماعة تقف وراء الكثير من أعمال العنف في الشوارع . ففي يوم الاقتراع وخلال الأسابيع اللاحقة، تم استهداف الأقليات الهندوسية من قبل أعضاء الجماعة الإسلامية لمجرد ذهابهم للتصويت. وفي المناطق الشمالية خاصة ، حيث تتركز الأقليات الدينية، تعرضت العائلات الهندوسية للهجوم، واحرقت منازلهم ودمرت أعمالهم. ووفقا لإحدى الإحصائيات، تأثر نحو 700 شخص. وقد أدينت هذه الهجمات على نطاق واسع، وليس فقط من قبل الهندوس، واندلعت احتجاجات في جميع أنحاء القطر .
وأهم شيء أن الاعتبارات الاقتصادية تتغلب على المخاوف بشأن التمثيل السياسي، وهذا سيكون لصالح الوضع القائم الجديد. ذلك إن تكلفة المزيد من الاضطرابات تكون مرتفعة للغاية، والمزاج السائد الآن يتجه نحو استعادة الاستقرار الاقتصادي. فالشركات لا تستطيع تحمل عاما آخر من التعطيل. وتشير تقديرات مركز حوار السياسات ، وهو مؤسسة بحثية مستقلة، إلى أن مجموع الخسائر الاقتصادية تصل أكثر من 6.3 مليار دولار. ولقد تحمل قطاع النقل وطأة الخسائر، تلاه مؤشر قطاع الصناعات الزراعية والملابس والمنسوجات .
وكانت الانتخابات السابقة في بنغلاديش محل احتفال وسط ضجة كبيرة حيث عرض الناخبون إبهامهم المزين بالحبر بكل فخر. أما هذه المرة فلم يحدث ذلك. ومع ذلك ورغم التوقف شبه التام في خريف هذا العام، إلا أن الحياة الحياة الطبيعية بدأت تعود . لم يكن هناك غضب شعبي عارم بعد هذه الانتخابات غير المتوازن . فالأطفال يعودون إلى المدارس، والطرق في العاصمة تزداد ازدحاما لحركة المرور مرة أخرى. وعادت الزبدة إلى رفوف المتاجر. لكن تبقى القضايا السياسية الأساسية عالقة، إلى الآن، والسلام الهش قائما .

تميمة أنعم
كاتبة وروائية بنجلاديشية خدمة نيويورك تايمز سنديكيت – خاص بالوطن