كان الغروب جميلا، ابتلع الغروب النهار بكل صخبه ونصبه؛ وبدأ السكون يتمدد في هدوء. بدأت عقولنا وأبداننا تحتفي بهذا الصمت الذي يلف الوجود، لكن رنين الهواتف النقالة كان يطاردنا ويعيدنا إلى الضجيج واللهاث والركض اللامحدود، انتبه أحدنا إلى الإزعاج الذي يسكن جيوبنا، فطاف علينا واحدا واحدا وانتزع الهواتف النقالة من جيوبنا، كالأم التي تسحب اللعبة من حضن طفلها؛ لكي ينعم بالنوم والسكينة. جمع كل الهواتف ووضعها في كيس ثم رمى بالكيس في إحدى السيارات، ثم التفت إلينا مازحا: جربوا أن تصبروا عن هواتفكم لمدة ربع ساعة فقط! شعرنا بالراحة وذقنا طعم السكينة، ونعمنا بالهدوء إلى درجة أن أمضينا سهرتنا التي امتدت إلى ساعات منتصف الليل بدون أن يفتح أحدنا هاتفا أو يقرأ خطابا أو تعليقا على شبكات التواصل الاجتماعي. ارتاحت أذاننا، واستراحت أعيننا، واستعادت عقولنا بعضا من الراحة المسلوبة منها جراء الزحام الصوتي الذي يلف العالم وينقض على سكينة الناس وهدوء نفوسهم.
جلسنا نتحدث في هدوء، ومن وقت لآخر كنا ننعم بلحظات صمت قصيرة. جربنا أن ننعم بالوجود الطبيعي وأن نمارس نعمة الحياة بدون أجهزة وبدون رنين أو ضجيج. نجحت التجربة واستسغنا إيقاع الصمت والسكينة، واستطعنا أن نصغي إلى أعماقنا، والتقى الداخل مع الخارج والصخب مع الهدوء والحركة مع السكون والكلام مع السكوت. جربنا شكلا آخر للحياة، واستعدنا الروح الهاربة التي كانت قد غادرت حياتنا اليومية، وعندما دخل وقت صلاة العشاء قمنا نصلي بدون ضجيج أو رنين، وشعرنا بنفوسنا نرتقي مع تلاوة الإمام، أدركنا من خلال الهدوء والسكينة الجزء الإلهي من وجودنا، وعاد إلينا الشعور بالمطلق.
إن كثيرا من الأخطاء التي نندم عليها مرتبطة بالضجيج والصخب وارتفاع حدة الصوت واختلاف وجهات النظر. كما أن الإسراف في استخدام الهواتف النقالة فضلا عن مخاطرها الصحية؛ يضعف التواصل بين أفراد الأسرة الواحدة، ويكرس التواصل الافتراضي ويشتت انتباه الكبار والصغار، ويقلل من التواصل البصري والعاطفي بينهم. كذلك يستنزف الاستعمال المفرط لهذه الأجهزة -كثيرا-الطاقة ويبددها فيما لا طائل منه. يلفت نظري عندما أزور بعض المؤسسات خلال ساعات الدوام الرسمي انشغال الموظفين عن متابعة أعمالهم بإرسال واستقبال رسائل (الواتس والفيس) والتغريدات على حساب أوقات العمل. بل إن كثيرا من (القروبات) لا ينام أعضاؤها مواصلين الليل بالنهار في دردشة مزعجة ومضيعة للوقت.
إن ترشيد الناس لاستخدام الهواتف النقالة يمكن أن يحفظ التوازن ويوفر كما كبيرا من الطاقة والأموال ويعيد إلينا الهدوء والتأمل، ويساعدنا على التفكير الخلاق وعلى التأمل والارتقاء بمداركنا إلى آفاق أرحب.
ماذا لو جرب كل منا أن يغلق الهاتف النقال بمجرد أن يبدأ ساعات عمله؟ ماذا يمكن أن يحدث لو مارس كل مستخدم للهاتف رقابة ذاتية على نفسه وقلل من نهب ساعات العمل الرسمي التي تختلس بدون وجه حق وبلا فائدة من خلال الاستخدام المفرط للهواتف النقالة اثناء الدوام؟
ماذا يمكن أن يحدث لو امتنع كل سائق مركبة عن استخدام هاتفه النقال أثناء قيادته لسيارته؟ ماذا يمكن أن يحدث لو حرص كل أب وأم ألا يحمل أبناؤهم الهواتف النقالة الذكية الموصلة بشبكة الانترنت بلا قيود أو ضوابط إلى مدارسهم؟
إن الذي يمكن أن يحدث تستطيع أن تختبره بنفسك عندما تنجح في ضبط ذاتك وتدريب نفسك على التحكم في تصرفاتك وأقوالك لكي تكتشف كم أنت رائع.


د. أحمد بن علي المعشني
رئيس مركز النجاح للتنمية البشرية