عندما يكون الواقع مظلما، وشديد الحساسية إزاء أنوار الحقيقة الساطعة، فإن المصير يبقى مجهولا، رحلة مع بطلي العرض حسب الترجمة مورجان وكويل في الفنار، اللذين طال الانتظار بهما في مسرحية "الظلمة" للكاتب الأيرلندي جالواي ومن إخراج الدكتور عادل كريم، التي أحالتنا إلى تيمة الانتظار في مسرحية "في انتظار جودو" للكاتب صمويل بكيت، حيث ظهرت شخصيتا فلادميير واسترجون ، وهما ينتظران المخلص الذي سيأتي بالحلول المثلى لأزمتهما الحياتية المالية والسياسية.
ولقد انبثقت تيمة "الانتظار" في هذه المسرحية من واقع الصحف التي وعدت بالكثير، والتي جعلت الناس يعيشون أوهاما مغلوطة وأحلاما لم تتحقق بعد ، هكذا هو الواقع الذي رسمه معد النص، الذي لم يكتف بإعداده فقط، ولكنه اسقط عليه من واقعه اليومي والحياتي ، حيث نجد عبارات مثل: "جثث مقطوعة الرأس على ضفاف النهر" و "اعتراف حكومي بسرقة أموال وعقارات".
تخلل عرض مسرحية "الظلمة " إشارات سريعة إلى الفساد مع محاولة ربطها بتيمة الظلام والانتظار الذي طال والذي تحول إلى كابوس مزعج ، هكذا نجد عبثية الحياة، بدأت تلقي بظلالها على هذا العرض، والذي حاول أن ينبش في ذاكرة الشخصيتين الموجوعتين بهمهما اليومي وقلقهما الوجودي.
ولقد ربط الشخصيتين مصير مشترك وحدهما في الفنار في اللازمان وفي إطار عبثية الحدث التي جعلهما يعيشان حياة مضنية حيث (شح الغذاء، وندرة المياه ، .وانعدام الأمان) ، لذلك تدنت رتبتهما حتى وصلت إلى درجة الحيوانات والجمادات التي حاول الكاتب أنسنتها وتقليدها، مع تجريد شخوصها من الصفات الإنسانية ! وبذلك استطاع الكاتب أن يرصد الحالة النفسية العبثية التي عاشتها شخوصه، والتي بدت للمشاهد بأنها شخصيات بسيطة باتت تحلم بالسفينة (المنقذ)، المخلص الذي سيحقق الأحلام المؤجلة على صفحات الصحف التي غطت المنصة ، والتي عبرت عن احتياجاتهما الغريزية بدءا بالحب، انتهاء بالحلم السياسي الذي أصبح مجرد شعارات مهما تغيرت قياداته، هكذا استمرت الشخصيتان في رسم الأحلام والآمال التي طال أجلها من خلال جدل حواري، استطاع أن يجسد الصراع الذاتي ، حيث تباينت النزعات الإنسانية والرغبات الجسدية (الأكل والشرب والجنس) ، والتي انتهت بالهروب من واقعها الصعب حيث الحرية والأمان.
ولقد بدت ملامح العرض في اتساق جمالي ، حيث ظهرت إحدى الشخصيتين جالسة على يمين خشبة المسرح، بينما الأخرى تحاول الصعود إلى الفنار ، الذي هو عبارة عن هيكل حديدي يتكون من ستة مربعات ؛ كل مربع أو بقعة يشكل موقفا تعيشه الشخصية، والتي تتحاور وتتجادل مع الآخر.
ولقد تحركت الشخصيات في اتجاهات مختلفة من خلال رؤية إخراجية تحررت من قيود الحدث الدائري ، مع محاولة البحث عن الحقيقة ، حيث الظلام والانتظار، مما جعل النص يجسد جماليات "السينوغرافيا" التي شكلتها عناصر الديكور والإضاءة والموسيقى والأزياء.
كما ساهمت الصحف المنتشرة على خشبة المسرح في تضخيم الصورة المشهدية وتغطية الفضاء المسرحي، فهي شاهد عيان على الأحداث المقدمة، إلا أنها احتلت مساحة واسعة ولو اختزلت إلى النصف أو ربما أقل من ذلك لرسمت رؤية جمالية أكبر، حيث بدت المنصة مكتظة بأوراق الصحف، فيما ظهر الهيكل الحديدي الدال على الفنار ضخما، يستحوذ على أكبر مساحة على المنصة عرضا وارتفاعا ، ولو انه قزم قليلا ، لظهر ككتلة جمالية يمكن أن تبرز جمال الركح.
برغم محاولة الممثلين إيصال الحوار إلى الصالة ، إلا أن الصوت لم يكن واضحا ، إضافة إلى تماهي الشخصيتين ضمن حيز خشبة المسرح ، فأصبحنا لا نشاهد الحركة إلا في اتجاهات معينة ، جسدت مدرسية الأداء وقزمتها في إطار محدود ، وكانت هناك محاولة من معد النص على تحويل الحركة الأفقية على المنصة إلى حركة عمودية داخل الهيكل أو الفنار الذي وضع في وسط خشبة المسرح .
إضافة إلى جهود مصمم الديكور في كسر تلك الرتابة بواسطة تحريك وضعيات الفنار ، والاشتغال على الإضاءة مع ثبات الصورة البصرية ، مما جعل عين المشاهد تشعر بضعف الإيقاع العام للعرض المسرحي .
وهذا لا ينفي الجهود الأخرى وخاصة في مجال "السينوغرافيا" التي اعتمدت على الإضاءة المتسللة من جانبي المسرح الأيمن والأيسر إلى جانب الإسقاط الضوئي من أعلى حسب تشكل الحالة، وضبابية المشهد مع التركيز على ألوان محددة لإعطاء شعور بالظلمة وضياع الأمل والخيبة، إزاء الواقع وربما الإضاءة الحمراء التي سلطت على الممثل كثفت الشعور بفقدان الامل، وغلبة الوعود الزائفة من قبل الحكومات التي أصبحت بدون جدوى.
بالنسبة للمؤثرات الموسيقية المستخدمة في هذا العرض ، فإن هناك المؤثرات الصوتية : أمواج البحر، العاصفة ، أصوات السفن ، وهي تمخر عباب البحر، وجميع ذلك ساهم في تعزيز تيمة الانتظار الذي طال ، فيما تخللت العرض مقطوعات موسيقية عالمية ، ساعدت على تكثيف معاناة الشخصيات واستمرت على وتيرة واحدة. هكذا تآزرت مفردات عرض مسرحية (الظلمة) في تجسيد لحظة المعاناة والتشرذم واللاإنسانية ازاء واقع صعب، ساهمت ازياء الممثلين في تأكيد إنسانيته المنفتح على الآخر، والتي انتهت بتفكيك الفنار، في حين تماهي الزمان والمكان ، فالشخصيات والأحداث أكدت عبثية الواقع ، وهكذا استطاع العرض اختزال الكثير خلال خمس وأربعين دقيقة.