يعد التوقف عند أحد محاور الفكر العربى , ومحاولة فهمه هو رؤية البنية الكلية , فالمفردة تعبر عن النص , والجزء يعبر عن الكل , والقُطر يعبر عن الدائرة , لأنه لا يمكن فصل الفكر العربى فهو قدر الجغرافيا والتاريخ والمصير المشترك فى عصر العولمة , فإن دراسة الحالة هى دراسة للواقع الفكرى كله . ومن هنا يحاول بعض الخبراء فصل الفكر العربى . وهو ما يخرج من الإجمال إلى التفصيل . وأغلب المحاولات التى بذلت فى الفكر العربى لم تصل إلى سبعينيات هذا القرن . وإنما تناثرت بعض الكتابات الكثيرة فى الدوريات والمجلات , وكلها تحمل أفكارا عامة أو شائهة , وتطوف عند رموز هذا التيار أو ذاك . ويتداخل الفكر مع السياسة بمفهومها البراجماتى , دون التنبه لقيمة البنية الفوقية للمجتمع وعلاقاتها البينية بالبنية التحتية , وإعادة صياغة هذا كله عبر تقطير فكر واع .
صراع أيديولوجى
يشير الكاتب فى بداية مؤلفه إلى كون الواقع أن التعامل مع الفكر العربى بشكل شمولى يشوه بعض محاولات قليلة لممثلى التيارات المختلفة , فضلا عن أن كتابات هؤلاء لم تصل إلى تنظير عضوى لأهم قضايا العصر الذى اهتز بشدة بالانكسارات العربية , والقلاقل السياسية فى المنطقة , خاصة التداعيات السلبية لحروب الخليج التى عملت بالسلب فى بنية الفكر العربى الذى ينوء بالمؤامرات الخارجية . فالصهاينة يعملون على عزل الفكر العربى عن ثقافة التجديد فى الابداع والانتاج الثقافى الذى صار بمعزل عن التطور بسبب سياسات التآمر الغربية والاسرائيلية . ليكون الهدف لحاملى معاول الهدم للأفكار العربية هو تحويلها إلى مرآة جدلية غائبة عنها روح الماضى وشفق الحاضر وعبير المستقبل الذى ينتظر من العرب كيفية تغيير أفكارهم نحو تطوير الصياغة والمضمون , وإحداث نهضة حقيقية فى المجتمعات العربية تقوم على الأصالة والمعاصرة , وتغليب فكر الالتزام على الانحلال الخلقى الذى للأسف يرمى الغرب إلى غرسه داخل المجتمعات الشرقية والإسلامية بغية تشويه صورة المبادئ والقيم بها . ويرتبط بهذا أنه حتى من عرض لمسيرة الفكر العربى لم يتنبه إلى أن أغلب من يعرض لهذا الفكر لم يصدر عن مرجعية أيديولوجية قط , وإنما مرجعية نقدية فى الأساس يحددها خيارها السياسى والتاريخى . وغير أن الأكثر خطورة من هذا كله أن حركة الفكر العربى المعاصر دخلت دائرة العولمة , وليس العالمية فى نهاية القرن العشرين , وحتى الآن , لقد حدثت تغييرات كثيرة منذ نهاية الثمانينيات , وبداية التسعينيات من القرن المنصرم فى مرحلة تفكك الكتلة الشرقية , وتحول الثنائية المعروفة بين شرق وغرب إلى ثنائية أخرى بين شمال وشمال . واختصر الجنوب إلى أرياف العالم المتقدم يزرع فيها أفكاره , فالجنوب العالمى صارت تنهشه الأفكار الغربية الغريبة التى يرمى من ورائها مروجوها إلى السيطرة على مقدراته , وينبه المؤلف إلى نقطة الصراع الفكرى الراهن , فلعل آثار العولمة لم تنته عند أفكار مشوهة ودخيلة بل امتدت إلى محو أفكار الابداع العربية فى مهدها بحيث يكون استعمار العقول العربية هو المرحلة الجديدة بعد فشل الاستعمار السياسى ورحيله , غير أن محاولات تفتيت البلدان الشرق الأوسطية تجلت من خلال زرع ثقافات التشرذم وشيوع أفكار الفتن , وعدم وضوح الرؤى الخاصة بكيفية التصدى لمعاول الهدم من خلال ثقافات متحضرة تحافظ على المبادئ القيمة , وتصون البلدان العربية من التفكك الذى ترمى إليه الدوائر الغربية من خلال اشاعة جو من الكراهية والتناحر والرغبة فى تغليب المصالح الشخصية على العامة , ولعل أفدح بعض تلك الأفكار المتأمركة والغربية الغريبة كان بغرس فكر الإرهاب الدينى والتطرف لمنع ثقافات التجديد والتواصل المجتمعى من السير على درب التحديث العربى المرجو .
أفكار متناقضة
ويمضى الكاتب الدكتور مصطفى عبد الغنى قائلا: من المهم تكرار الانجازات الفكرية العربية عبر دراسة تراث فحول الأدب العربى وتاريخهم الثقافى من خلال عطائهم , وما تركوه للأجيال القادمة , حيث إن هذه الخطوة تعنى استعادة أمجاد الأدب العربى , فهناك أمثلة عربية يشار إليها بالبنان كعميد الأدب العربى طه حسين , والنابغة المصرى حائز جائزة نوبل نجيب محفوظ , والعبقرى عباس محمود العقاد , وغيرهم لم يكونوا سوى انعكاس لحركة فكرية وأدبية ثرية لعقود خلفت وراءها تراثا زاخرا من العطاء لا يمكن التعبير عنه سوى من خلال اللهث وراء انجازاتهم ومحاكاتها , والسير على دربها , وليس مجرد عرضها فى كتب تزين بها المكتبات أو وضعها فى المكاتب والمهرجانات كتحف فكرية لا يمكن وضع مثيل لها أو تقليدها , فصناعة الأديب عملية معقدة تحتاج لاكتشاف المواهب أولا , وتشجيعها ثانيا , والسير بقوة على دربها ثالثا من أجل استكمال مسيرة النهضة الفكرية العربية من خلال وضع أطر للعولمة لا تتخط خطوطها الحمراء كى لا يكون الأدب العربى مشوها بفعل أفكار غريبة على عاداتنا وقيمنا , فالعبرة فى صناعة الأديب هى ايجاد قائد للجيل يصنع أفكاره ويقود مسيرته الثقافية ليتسع نطاق الفكر إلى صياغة ايديولوجيات تقوم على تعديل مسار العقول العربية لتصبح منتجة لسياسات ورؤى أكثر انفتاحا تشمل التواصل المجتمعى والوعى الضميرى بكيفية تغليب المصالح العامة على النظرة الضيقة للمصالح الشخصية , وهو ما يرجح ميزان الثقافة الفكرية للعرب فى مواجهة طوفان العولمة والأمركة التى صبغت طابع الشخصية العربية فى هذا العصر بالكثير من التناقضات والسلبيات لا حصر لها ما بين التقليد والزيف , حتى اتسعت الهوة بين انجازات العرب فى الماضى على الساحة الفكرية والثقافية وما نشهده الآن من طمس الهوية العقلية .
اضطراب ثقافى
ويضيف الكاتب أن خلط الأوراق الفكرية , واختلاط الثقافات المعاصرة فى المجتمعات العربية أفرز العديد من المتغيرات على الساحة الفكرية والثقافية , فلم تعد ثقافات القلم هى مصدر الفخر بالمتعلم العربى مع شيوع البطالة والعوز والفقر فى المنطقة بل صارت أفكار التحول نحو الماديات , واللهث وراء الكسب بأى طريقة هى الشائعة فى ضوء تغير مفاهيم العقول للبحث عن كيفية جمع المال بشتى السبل حتى أن بعض نجوم السينما والفن والغناء وكرة القدم أخذوا على عاتقهم المتاجرة بموهبتهم التى حباهم بها الله، بشكل ضيع تلك المواهب لتكون رهينة حفنة من المال , فغاب الفن الحقيقى والجيد صاحب الفكر القيم والرسالة السامية , ولم تعد الهواية سوى وسيلة للحصول على المال فى ظل عولمة الأفكار التى لا ترحم حتى أصبح الشباب بلا غاية سوى البحث عن المتع والملذات فى ظل ضياع الثقافة. إن التعامل مع الفكر العربى شابه الاضطراب الشديد تبعا لتشابه الأمور , وزيادة الهجمة الغربية الثقافية ضد مجتمعاتنا العربية لدرجة طمست تاريخها الأدبى وحولته إلى تراث فى المتاحف والمجلدات والمكتبات يشار إليه كتحف نادرة لا يستطيع أحد تقليدها من الأجيال العربية المعاصرة . فلم تعد للقضايا الفكرية شفافيتها الأولى , وبعد أن كنا نلاحظ منذ دخولنا عالم الغرب فى القرن الماضى أن هناك ثنائيات معروفة مثل الثنائية فى التعليم بين دينى ومدنى , أو فى الدين بين الشريعة والقانون الحديث , فإذا بالفكر المعاصر أمام ثنائيات لم تكد تخطر على بال المفكر قبل قرن أو يزيد . لقد أصبح الفكر العربى يتعامل مع عالم جديد تسود فيه المعلوماتية والتكنولوجيا الذكية ووسائل الاتصالات المفزعة . والمطلوب اعادة صياغة الفكر العربى فى هذا النسيج الجديد قبل أن يصبح العرب خارج النسيج , أو قبل أن تصبح ثقافة العربى خارج نطاق النظام العالمى الجديد الذى صار لغزا مستحيلا بسبب عدم وضوح أفكاره وتشوهها بطريقة لافتة للنظر عبر صراع ايديولوجى كهوة سحيقة يصعب على المفكر العربى الهروب منها إلى عالمه المرجو.
الجدير بالذكر أن كتاب "تيارات الفكر العربى المعاصر" لمؤلفه الدكتور مصطفى عبد الغنى، نشره المجلس الأعلى للثقافة المصرى، في 232 صفحة.