” .. لعل أكثر ما لفت نظري أن خطابات جلالته ـ أبقاه الله ـ لم تكن مجرد كلمات يطلقها قائد في مناسبات بلاده الوطنية، بل انها تعدت حتى كونها رؤية ثاقبة لزعيم ملهم، أو قائد يفجر طاقات شعبه، فهي تفوقت على كل هذا، لأراها أفكار فيلسوف تفوق على الفلاسفة المنظرين، بتحويل الأفكار إلى رؤى قابلة للتطبيق،”
ـــــــــــــــــــــــــ
حالفني التوفيق كثيرا، وشاركت في عدة إصدارات لكتب وطنية اصدرتها مؤسستنا الغراء بمناسبة يوم النهضة، والعيد الوطني، وتشرفت من خلالها بالاطلاع وقراءة خطب وكلمات حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ منذ خطابه الاول في 23 يوليو 1970م، الذي تعهد فيه بالإسراع بجعل مواطنيه الأوفياء يعيشون سُّعَدَاءِ لمستقبل افضل، مطلقا عبارته الخالدة(بالأمس ظلام ولكن بعون الله غدا سيشرق الفجر على عمان وعلى أهلها)، وصدق جلالته وعهدناه دائما صادقا صدوقا، وأشرق فجر النهضة المباركة على هذه الارض المباركة، برؤية القائد وسواعد أبنائها المخلصين.
ولعل اكثر ما لفت نظري أن خطابات جلالته ـ أبقاه الله ـ لم تكن مجرد كلمات يطلقها قائد في مناسبات بلاده الوطنية، بل انها تعدت حتى كونها رؤية ثاقبة لزعيم ملهم، أو قائد يفجر طاقات شعبه، فهي تفوقت على كل هذا، لأراها افكار فيلسوف تفوق على الفلاسفة المنظرين، بتحويل الافكار الى رؤى قابلة للتطبيق، متخذا من تلك الرؤى قواعد لبناء شامل تخطى حدود الانسان والمكان الى نهضة انسانية شاملة، يعزف فيها المواطن (أساس التنمية) أنشودة رائعة تخطت حدوده، ليأخذ مكانه المستحق بين شعوب العالم.
وبرغم انه تسلم بلدا مليئة بالمشاكل إلا ان جلالته سعى منذ اليوم الأول للم الشمل، رافضا بناء سلطانه على دماء حتى وإن كانت لمن عارضوه ورفعوا السلاح، فتمهل عليهم وفتح باب الوطن لمن يريد أن يلحق ببناء نهضته، واحتوى ما يمكن احتواؤه حتى نجح في ان يحول معارضي الماضي، لرجال يبذلون الغالي والنفيس خدمة لعمان وقائدها، ولا عجب في ذلك فهو من انتشلهم من بغضاء التنافر الى رحب المحبة والوئام، بصبره واعلائه المبادئ الانسانية التي سعى اليها فلاسفة ومفكرو العالم، لينجح السلطان قابوس في تحويلها لواقع، فالعدل في عمان واقع والحرية في عمان يبرهنها تلك الألفة بين جميع الفئات رغم اختلاف طوائفها، والمساواة عنوان تتلمسها في هذه البلاد الكريمة فور دخولك الى ارضها الطيبة، مرورا بتعاملك مع شرطتها وموظفيها، فأصبحت عمان قابوس حضنا يحتوي جميع مواطنيها وحتى المقيمين على فيروزها.
فقد توخى جلالته ـ حفظه الله ورعاه ـ منذ انطلاق مسيرة النهضة المباركة أن تكون مخططات التنمية نابعة من صميم الواقع العماني وفي ذات الوقت منفتحة على العالم وشدد على ان هذا الأساس هو الشعب العماني وفي مركزه المواطن العماني، وبعد ان انتشل الشعب العماني من التمزق والضياع اتجه لإحياء حضارته التليدة، وكان التعليم هو نقطة الانطلاق لفلسفة قابوس نحو النهضة، فقد اكد ان التعليم كان أهم ما يشغل باله فأعلن الخلاص من سياسة (الباب المغلق) وبدأ في ميدان التعليم حملة بدأت للوهلة الأولى وكأنها تهافت الظمآن على الماء، ووفر الإمكانيات جميعها لتحطيم قيود الجهل، وفتحت المدارس دون أي حساب للمتطلبات فالمهم هو التعليم حتى تحت ظل الشجر ولم يغب عن باله تعليم الفتاة فقد رأها نصف المجتمع وجزءا اصيلا من اسس نهضته، فعمت المدارس كل جزء من أجزاء السلطنة للبنين وللبنات بعد ان كانت 3 مدارس عام 1970 تضم 900 تلميذ، وتكملة لجهود بناء الانسان العماني فقد اهتم جلالته بالصحة بشكل كبير ورفع شعار ( الصحة حق لكل مواطن) وحرصت حكومته الموقرة على إيصال الخدمات الطبية للمواطنين في كل مكان، حتى عمت كافة ربوع عمان، بدلا من 10 مستوصفات وتسعة مراكز صحية كانت موجودة في عام 1970.
ولم ينس البيئة وهو يتوجه نحو التنمية المستدامة التي تشهد ذاتها عن مدى التقدم التي شهدته عمان، فقد شدد على ضرورة بذل المزيد من الجهد ومراعاة الاعتبارات الخاصة بحماية البيئة عند تخطيط وتنفيذ المشاريع الإنمائية، ليعطي مثالا عالميا لضرورة وضع صون البيئة اساسا للتنمية لحماية المكان للأجيال القادمة، واقد اطلق في سبيل ذلك تشريعات وقوانين داخلية، وتواصل مع الجهات الخارجية، فحسب فلسفة جلالته فإن الحفاظ على البيئة مسؤولية جماعية لا تحدها الحدود السياسية للدول فنحن جميعا نعيش في عالم معا، وحذر منذ عقود بأن العالم يسير في الاتجاه المعاكس في تسابق عجيب بحثا عن الرفاهية والتقدم الصناعي دون مراعاة للتوازن المفترض بين التنمية والبيئة، ودون احتساب للآثار الوخيمة، لهذا التقدم الصناعي، على غلافنا الجوي وطبقات الأوزون ومياه الأنهار والبحار وانقراض الحياة والغابات وتلوث التربة الخصبة، ورأى جلالته ان ذلك بمثابة الانتحار الجماعي للبشرية.
واذا انتقلنا الى التنمية الاقتصادية فسنجد رؤية جلالته قد سبقت العصور، ففي حين استخدم اموال النفط الذي رزق الله به عمان في وضع الاسس القوية للنهضة الشاملة، الا انه ومنذ السنوات الاولى للنهضة وضع جلالته استراتيجية عملية للوصول لافاق ارحب وطموحات أكبر من اجل المحافظة على ما تحقق واثراء النهضة بالجديد من الانجازات من خلال تنمية الموارد الاقتصادية بالاستخدام الامثل للثروة الطبيعية والطاقة البشرية نحو اقتصاد متنوع ومتين ومتفاعل مع الاقتصاد العالمي، لذا سارعت الحكومة الموقرة الخطى نحو بناء بنية اساسية في كافة الاصعدة من طرق ومواصلات ومطارات وموانئ لتكون حجر زاوية نحو التنوع الاقتصادي الذي اصبح اقرب الى عمان من اي وقت مضى، ولعل دفع القطاع الخاص للقيام بالدور الاكبر في التنمية الاقتصادية هو خير دليل على نجاح تلك الفلسفة، فقد اعطى جلالة السلطان اولوية لدفع القطاع الخاص لتطوير قدراته وتعزيز خبراته وتنويع مهاراته حتي يتمكن من مضاعفة مساهمته في التنمية الاقتصادية، بل تخطاها الى التنمية الاجتماعية، معتمدا على العمالة الوطنية في كافة الاصعدة.
اما على صعيد السياسة الخارجية فقد تجلت فلسفة جلالته ـ حفظه الله ـ في عدة اسس تعتمد على السيادة الذاتية المطلقة وحسن الجوار وعدم التدخل في الشئون الداخلية للغير، والتزام الحياد الايجابي، والنأي بالذات عن الصراعات، وكانت تلك السياسة هي نموذج عماني فريد يستحق ان يصدر لكافة دول العالم، ففي عالم ومنطقة يموجان بالتوتر والتطرف والصراعات، اتخذت السياسة الخارجية العمانية، مبدأ الاصلاح، وكانت بامتياز بوابة التفاهم بين متصارعين اعياهم الصراع، وكانت دائما ما تتم دون ضجة، وبهدف واضح وواحد هو السلام الاقليمي والعالمي، ويعد التواجد الفاعل لعمان في كافة المنظمات الاقليمية والدولية، تواجدا قائما على المودة والتعاون، بعيدا عن التشاحن والتحزب، علاقات جيدة بالجميع، اهلها لتصبح مخرجا لمن يرغب بالسلام.
باختصار ان فلسفة جلالة السلطان قابوس سعت منذ البداية لنهضة شاملة اهتمت بالانسان والمكان والبيئة المحيطة متلحفة بقيم عمانية راسخة ومعتزة بعاداتها وتقاليدها، نابذة للفرقة داخليا وخارجيا، لتصبح واحة للامن والامان، محترمة للحريات والعقائد متمسكة بدينها الحنيف، واذا اردت ان تنظر لنجاح الفلسفة التي قامت عليها تلك النهضة فلتنظر للنهضة المكانية فهي خليط بين حداثة وتمسك بالارث الثقافي، او انظر للانسان العماني الذي يتمسك بعمانيته بدءا من الملبس وحتى العادات والتقاليد الموروثة والمستمدة من قيم ديننا الحنيف، الى ان يطرق الصعاب نحو التعلم والنهوض ومواكبة كل ما يفيده من التطور في العالم ، انها حقا عمان وقد عادت لعراقة صنعها الجدود وأحياها وأضاف عليها فلسفته ابنها البار قابوس.

ابراهيم عبدالحميد بدوي
كاتب صحفي مصري