ليس مبالغة القول إن الولايات المتحدة تعيش أزمة أخلاقية كبرى في منطقة الشرق الأوسط لم تشهد لها مثيلًا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، ولعل في تفاعلات واشتباكات ونتائج رهانات الأميركي على (فوضاه الخلاقة) والتي أعلن عن ولادتها بُعيْدَ احتلاله العراق، واستشرائها غير المسبوق تحت غطاء ما سمي "الربيع العربي"، ما يؤشر إلى حجم هذه الأزمة الأخلاقية وكذلك السياسية، ويستحث ليس المواطن العربي وحده وإنما مواطني دول العالم على ترسيخ تلك الصورة التي ارتسمت في العقل العربي وغير العربي أثناء وبعد احتلال العراق، حيث أخذ سلوك الإدارة الأميركية يعيش لحظة انكشاف إن لم يكن لحظة انفضاح تاريخي أمام العالم الحر، الذي بات شاهدًا على ازدواجية واضحة في المواقف، وإصرار على تمرير مشاريع تعيد رسم خريطة المنطقة، وإن تبدلت التكتيكات وتغيرت الأدوات تقدمًا أو تأخرًا، سواء أكان ذلك في سوريا أو غيرها من تجارب سابقة في بلداننا العربية.
وإذا كانت لحظة الانكشاف والافتضاح بدأت في بلاد الرافدين، فإن هذه اللحظة تتكرر اليوم في العراق ذاته بعد عقد ونيف حيث محاولة إعادة إنتاج الاحتلال الأميركي بأشكال غير أخلاقية من خلال "الفوضى الأميركية الخلاقة المبنية على الإرهاب والفتن الطائفية والمذهبية والتحريض والكراهية" برأس حربتها "داعش" وغيره من مشتقات تنظيم القاعدة الإرهابي، والعمل على إلباسها لبوسًا يغطي قبح الاحتلال وأخلاقه الدنيئة عبر وسائل الدعاية الإعلامية والسياسية والترويج لما أطلقت عليه إدارة الرئيس باراك أوباما اسم استراتيجية مواجهة تنظيم "داعش"، في استخفاف واضح بالعقل والضحك على الذقون بأن واشنطن تحارب صناعة أنتجتها أساسًا لإعادة احتلالها للعراق وإعادة تموضعها في المنطقة بما يمكنها تاليًا من إعادة رسم خريطة المنطقة استباقًا للقضاء على التحديات المستقبلية التي قد تعوق التفوق الإسرائيلي في المنطقة، وتؤدي إلى تهديد بقائه جاثمًا على صدر المنطقة.
هذا الافتضاح المصحوب بالدعاية الأميركية المعتادة والصاخبة والهادفة إلى سرقة ما لم تحققه على صعيد الميدان أو السياسة، بدا مقززًا بُعيْدَ نجاح العمليات التي قادتها قوات الجيش العراقي وبمشاركة قوات الحشد الشعبي في محافظة صلاح الدين وتحرير مدينة تكريت مركز المحافظة من قبضة "داعش"، وتطهيرها من رجس الإرهاب، حيث كانت لافتة أبواق الدعاية والصخب الإعلامي الأميركي حول نجاح القوات العرقية والشعبية في دخول المدينة، وذلك حين أعلنت الولايات المتحدة أنها "شاركت في العمليات بعد تقديم بغداد ضمانات لتولي القوات الحكومية المهمة الرئيسية في الهجوم"، وأن "تلك الميليشيات الشيعية ـ كما أسمتها ووصفتها ـ المرتبطة بإيران والمخترقة من قبلها أو الخاضعة لتأثيرها ـ حسب زعمها ـ تمت إزاحتها كليًّا من أرض المعركة"، بينما أكدت الوقائع الموثقة بالصور والشهود أن الغارات التي شنها تحالف واشنطن في تكريت كانت تستهدف قوات الحشد الشعبي، فضلًا عن أطنان الأسلحة التي توالت طائرات التحالف لإسقاطها على أراضي تكريت لتزويد إرهابيي "داعش" بها، والهدف من ذلك واضح وهو إضعاف القوات العراقية بإبعاد قوات الحشد الشعبي عن طريق استهدافها المباشر، وبالتالي معادلة كفة القوتين المتواجهتين "القوات العراقية وداعش" بقصد إطالة القتال، وفي الوقت ذاته إسناد "داعش" كصنيعة أميركية لتتمدد في الأراضي العراقية والسورية، إذ إن القضاء على "داعش" خط أحمر أميركي بدليل أن استهداف قوات الحشد الشعبي في تكريت ليس الأول، وإنما حدث في أكثر من منطقة ومعها كذلك قوات الجيش العراقي.
إن دخول الولايات المتحدة على خط انتصار القوات العراقية وقوات الحشد الشعبي ومحاولة سرقة هذا الانتصار ونسبة الفضل فيه إلى تحالفها، لن يغير من الواقع والانطباع والصورة المرتسمة عن أميركا شيئًا، مهما حاولت الهروب منه بتحسين صورتها باصطناع أدوار بطولية وأخلاقية، بل إن دحر "داعش" الصنيعة الأميركية يمثل حلقة أولى في سلسلة حلقات "الفوضى الأميركية" في المنطقة، وكسر هذه الحلقات، بفضل الله، وفضل الإرادة والصمود والوعي لدى مكونات الشعب العراقي والسوري وغيرهما، وبالتالي نسف المشروع الصهيو ـ غربي برمته، وزوال الإرهاب وارتداده إلى نحور صانعيه ومنتجيه؛ لأن هذه هي سنة الحياة "كما تدين تدان، وطابخ السم آكله".