في مسرح السياسة الدولي دائمًا ما تسير مجريات الأحداث وفق خطوط المصالح التي تربط الدول بعضها بعضًا، واتفاق الإطار الذي توصلت إليه الجمهورية الإسلامية الإيرانية مع الدول الكبرى الست والمعروفة بمجموعة (5+1) يوم أمس الأول حول البرنامج النووي الإيراني، هو حدث تاريخي بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فكلا الطرفين مدفوعًا بمصالحه وضرورة حمايتها انطلق نحو ممارسة دوره، وبدء مرحلة جديدة بعد سنوات من التجاذبات السياسية والتسخين المتكرر لدرجة بلوغ مرحلة الهاوية والمواجهة العسكرية المباشرة، خاصة في ظل التحريض الإسرائيلي.
وبعيدًا عن الاصطفافات السياسية وبنظرة محايدة فإن الوصول إلى هذا الاتفاق الإطاري قد وضع الأرضية المناسبة لانطلاق الطرفين المتفاوضين نحو التوقيع النهائي على الاتفاق في الثلاثين من يونيو المقبل، والذي ـ بلا شك ـ تتقاطع مصالح طرفيه مع مصالح شعوب المنطقة والعالم من حيث الاستقرار والأمن والسلم الدولي وتجنيبها ويلات مواجهات عسكرية وحروب مدمرة لن تبقي ولن تذر، يروح ضحيتها سكان المنطقة وتهدر خلالها أموالهم وثرواتهم وتتوقف تنميتهم.
وعلى الرغم من المحاولات المحمومة من قبل كيان الاحتلال الإسرائيلي وبعض المتخندقين في خندقه لمواصلة التحريض ضد هذا الاتفاق والكذب والتهويل من نتائجه وما سيجره من نتائج ومتغيرات في المنطقة وخارجها، فإن الاتفاق من حيث المبدأ يعبر عن نضج سياسي يحسب أولًا لإيران في مواجهة "الزعرنة" غير المرغوبة والضجة المفتعلة من قبل كيان الاحتلال الصهيوني ومن يتخفى وراء عباءته، وثانيًا يحسب للمجموعة السداسية (5+1) ذلك أن هذا الاتفاق سيرسي قواعد عمل جديدة على أساس الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة تسمح لبناته ليس فقط ببناء الثقة المتبادلة وإنما بـ"التحقق غير المسبوق" ـ كما قال الرئيس الأميركي باراك أوباماـ، ويلغي حالة المواجهة وأجواء التوتر التي لا طائل من ورائها سوى هدر الأموال والطاقات والجهود وتعطيل التنمية، خاصة وأن مجموعة (5+1) وصلت إلى قناعة مفادها أن خيار المواجهة العسكرية أثمانه باهظة جدًّا، سواء عليها ذاتها وعلى مصالحها أو على حلفائها وتحديدًا كيان الاحتلال الإسرائيلي، فخيار الحوار والتفاوض هو بوابة الاستقرار والأمن والسلم في المنطقة والعالم، وهو السبيل الأوحد القادر على صون المكتسبات وتحقيق التوازنات المطلوبة للحفاظ على استقرار الدول وأمن شعوبها واستمرار تنميتها.
صحيح أن الاتفاق ـ شكلًا ومضمونًا ـ قد أعطى السياسة الإيرانية وسام استحقاقها من حيث قدرتها على الصمود والثبات على المبدأ، وعدم المساومة أو التفريط في المكتسبات وفي المسائل التي تمس الأمن القومي والجانب المعيشي والاقتصادي، بل إنها في سبيل الحفاظ على سيادتها واستقلال قرارها أبدت نفَسًا طويلًا وقدرة فائقة على امتصاص الأمواج الغربية العاتية المندفعة بقوة الضغط الصهيوني والسيطرة الصهيونية على مفاصل صنع القرار الغربي، وبالتالي فرضت ذاتها وأجبرت الخصوم على احترامها والجلوس معها على طاولة واحدة، بل بدا الخصوم هم المحتاجين أكثر من طهران إلى التوصل إلى اتفاق معها، وكما قال القائد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية علي خامنئي: "عدم الاتفاق أفضل من اتفاق سيئ". إلا أن هذا الاتفاق الإطاري يعطي الدبلوماسية العمانية شهادة استحقاق وتقدير على الدور الكبير الذي لعبته لتقريب الطرفين وإيصالهما إلى منتصف الطريق والوصول إلى هذا الاتفاق التاريخي، فهذا الدور الكبير للسلطنة عايش قضية الملف النووي الإيراني، حيث قاد حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ بحكمته ودرايته شتى تفاصيله، وأمَّن له أن يصل إلى بر الأمان والنجاح، وأن تكون له نتائج إيجابية تنعكس على أمن العالم، ويكون للمنطقة النصيب الأوفر منها، لا سيما وأن الاتفاق راعى مصالح الأطراف ومصلحة المنطقة وشعوبها. كما يعطي الاتفاق السياسة الخارجية للسلطنة وسام استحقاق وشهادة تقدير وما نهضت عليه من الأسس والمفاهيم التي أرستها نهضة عُمان الحديثة منذ أطلق إشارتها الأولى حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ تلك الأسس والمفاهيم التي تتخذ لنفسها عناوين واضحة لا لبس فيها تأخذ بمنهج التسامح والتفاهم وتعزيز آلية الحوار السلمي لحل كافة المشكلات التي تعترض سبيل الأهداف الإنسانية الكبرى التي تسعى إلى تحقيقها كافة المؤسسات الدولية كي تعيش البشرية في أمن وأمان وتفاهم ضمن منظومة عيش مشترك تحترم حقوق كافة الأطراف، وتحترم احتياجاتها ومصالحها.
ومن باب أولى القول، إن المنطقة والعالم اللذين تطلعا إلى السلطنة قبلًا وما بعدها والبارحة واليوم، إنما بسبب معرفتهما للاحترام الذي تحظاه، وللثقة بعظيم دورها وما تعنيه من بحث عن أفق يجدد عمق العلاقات الدولية في إطارها الإيجابي. وفي المقابل فإن السلطنة لسعيدة بالوصول إلى هذا الاتفاق التاريخي وما يحمله من بصمة عمانية أساسية ورئيسية؛ لأنه نجاح لسياستها الوازنة والمتوازنة، وشهادة على مسؤوليتها الجغرافية التي تتحملها.