[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/suodalharthy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]سعود بن علي الحارثي[/author]
” لم تؤمن السياسة العمانية يوما بلغة القوة والتعاطي معها واستخدام السلاح إلا في حالة الدفاع عن تراب الوطن تجاه عدو غاشم وعن مصالحه وحقوقه المسلوبة، أو عن بلد شقيق تعرض للاعتداء الخارجي, وما سوى ذلك فهي مع الحوار البناء والدبلوماسية الهادئة والتقريب بين وجهات النظر وتجريم كل عمل يؤدي إلى قتل النفس البشرية بدون وجه حق...”
ــــــــــــــــــــــ

(( ... ونحن نفخر بانتمائنا العربي, وليست لدينا رغبة في توريط أنفسنا في صراعات الدول العظمى أو خدمة مصالح الآخرين , كل ما نريده فقط هو أن نترك وكل بلدان المنطقة في سلام , وأن نلعب دورنا في خدمة قضية السلم العالمي, وهنا لا بد من أن نؤكد للجميع أن رغبتنا في السلام لا تنبثق من شعور بالضعف, نحن إذا تعرضنا إلى أي عدوان فإننا سندافع عن بلدنا بكل قوانا ... )) من الخطاب السامي في العيد الوطني العاشر
تأسست السياسة العمانية في بعدها الخارجي على جملة من الثوابت والقيم الحميدة التي بلورت بناء ثقافيا محكما ونهجا متفردا وأبانت عن وعي رشيد وقناعة متأصلة واستقلال في القرار الوطني, تفردت بها الدبلوماسية العمانية في مواقفها الحضارية وتعاطيها مع الملفات السياسية وبناء علاقاتها مع مختلف الأطراف, محققة نجاحات باهرة لا يختلف عليها اثنان, وفي مختلف الأزمات والأحداث والمنعطفات التي مرت بها المنطقة العربية والقرارات والتوصيات والبيانات الختامية المتخذة على مستوى الكيانات والمؤسسات والاجتماعات والمؤتمرات من حيث بناء العلاقات واستمرارها أو قطعها والتدخلات والمعالجات العسكرية والسياسات القائمة على التعصب والانفعال والمواقف الملتبسة والمبالغة لتقدير الأمور كانت للسلطنة رؤيتها المتفردة على ضوء الثوابت والقيم التي تأسست عليها والتي لم تحد عنها قيد أنملة وظلت صامدة أمام كل التحديات والضغوطات والمنعطفات الحادة التي نتجت عن الصراعات السياسية والعسكرية التي تمر بها المنطقة العربية. إن التقدير المبني على (( أساس الواقع وعلى الاتزان والحكمة وبعد النظر والتحسب لعواقب الأمور، وعلى حسن التصرف واللباقة في اتخاذ المواقف السياسية والثبات على هذه المواقف ... )) وترسيخ منهجية الحوار الموضوعي البناء والمتكافئ في معالجة الخلافات والنزاعات, احترام الآخر وعدم التدخل في شئون الدول, التوازن في بناء وتعزيز العلاقات مع مختلف الأطراف جنبت عمان وشعبها التوترات والأزمات, ووضعتها في مصاف الدول القليلة التي تحظى باحترام وتقدير وثقة العالم وحكوماته وتتمتع بنعمة الأمن والاستقرار في بيئة اقليمية ودولية مليئة بالمتناقضات والتقلبات والصراعات والتوترات , فاستطاعت عمان أن تقدم نموذجا لسياسة خارجية ناجحة مكنتها من التعامل بنجاح واقتدار مع مختلف الملفات السياسية والقضايا الاقليمية والدولية، وقد جاءت الشهادات والكتابات والتصريحات التي تنطلق من مختلف دول العالم وعواصمه ومؤسساته الدولية لتعبر وتؤكد على هذا الاحترام والاعتزاز والتقدير الذي تكنه الشعوب وقادة العالم والمفكرون والساسة والكتاب والصحفيون لشخص جلالته ـ حفظه الله ورعاه ـ, ولمكانته السياسية وموقعه القيادي ودوره الرائد في تشخيص المشكلات ورسم السياسات والتمسك بالثوابت وإدارة الأزمات والتي ارتبطت بالحكمة والتوازن والحنكة والعمق في الرؤية والخبرة السياسية والعمل على ترسيخ قيم السلام والحوار, وهو ما جعل من عمان قبلة الساسة ومصدر الرأي والاستشارة ومنطلقا للحوار البناء والمتوازن بين الأطراف والحكومات وبيئة صحية لتنقية الأجواء بين المختلفين وتوقيع اتفاقيات التفاهم وعلاج الخلافات, يستأنس بحكمة سلطانها وبعد نظره الجميع. سياسة محكمة تنم عن قيادة فذة ورؤية حصيفة جعلت من علم عمان مرتفعا خفاقا في سماء الدنيا يرفرف في كل مدينة وعاصمة عربية وأجنبية معلنا عن الرفعة والشموخ والمعاني الصادقة, والسفينة العمانية تمخر عباب المحيطات والبحار تتحدى الأمواج والعواصف حاملة معها رسالة القائد الداعية إلى مبادئ السلام والحب ومعالجة سوء الفهم والمشكلات بالحوار الفاعل وتبادل المنافع المفضية إلى المصالح العامة للشعوب وعدم التدخل في شئون الآخر, دبلوماسية راقية أشادت بها حكومات ومؤسسات وزعامات كثيرة طوال تلك السنوات الماضية.
لم تؤمن السياسة العمانية يوما بلغة القوة والتعاطي معها واستخدام السلاح إلا في حالة الدفاع عن تراب الوطن تجاه عدو غاشم وعن مصالحه وحقوقه المسلوبة أو عن بلد شقيق تعرض للاعتداء الخارجي, وما سوى ذلك فهي مع الحوار البناء والدبلوماسية الهادئة والتقريب بين وجهات النظر وتجريم كل عمل يؤدي إلى قتل النفس البشرية بدون وجه حق أو دعم طرف على حساب طرف آخر ينتميان إلى شعب واحد ووطن مشترك إلا في اطار النصح والرأي المفيد والسعي إلى رأب الصدع وبذل كل جهد ممكن لتوفير الأرضية المناسبة وتنقية الأجواء وتمهيد العقبات وتوظيف واستثمار الفرص والمصالح والجوانب المشتركة من أجل الاتفاق والصلح, ولو أنها أظهرت موقفا منحازا لطرف على آخر لأفلتت من يديها فرص السلام والاتفاق والقيام بمبادرات ومساعي حميدة وتبني دور الوسيط بين المتخاصمين, هذه السياسة الحكيمة التي تواصلت على مدى أربعة عقود ونصف يقدرها الأشقاء في بلدان الخليج العربي وفي العالمين العربي والإسلامي, ولا يجدون في تفرد هذه السياسة واستقلالها والتزامها وانحيازها إلى الثوابت والمبادئ التي تأسست عليها غضاضة وإن لم تتوافق مع توجهات الأغلبية أو اختلفت معها على الآليات والوسائل المتبعة في التعامل مع بعض القضايا والملفات والتزمت بموقفها الخاص, وقد مرت السلطنة بمواقف وأحداث كبيرة وتعاملت مع ملفات وقضايا حساسة كانت لها رؤيتها وسياساتها المنفردة ومع ذلك ظلت محافظة على علاقاتها الوطيدة مع الجميع (( الابقاء على العلاقات كما هي دون تغيير مع جمهورية مصر العربية بعد توقيع الرئيس السادات لاتفاقية كامب ديفيد, استمرار العلاقات مع ايران خلال فترة الحرب العراقية الايرانية , بقاء العلاقات مع النظام السوري, وجهة نظرها بشأن مشروع الاتحاد الخليجي, الدور العماني في الملف النووي الإيراني ....)), وها هي السفارات العربية إما أنها عادت أو في طور عودتها إلى دمشق في اعتراف صحيح وواضح بحكمة السياسة العمانية وبعد نظرها, وها هي قيم السلام ومبادئ الحوار وجهود الدبلوماسية العمانية الهادئة تحقق إنجازا مهما يشاد به سياسيا واعلاميا, اقليميا ودوليا, بالاتفاق النووي بين الدول الكبرى وإيران والذي جنب المنطقة شبح حرب وصراعات عنيفة وسباق تسلح نووي ستكون نتائجها وخيمة ومدمرة. وفي الأزمة اليمنية الحالية , فسياسة السلطنة المعلنة وكما كانت , تقف مع خيارات اليمنيين ومع الشرعية المعترف بها داخليا وخارجيا, إلا أنها تختلف في الوسيلة وفي الأسلوب, مفضلة في معالجة الأزمة أسلوب الحوار وطاولة المفاوضات والسعي إلى الصلح بين الأخوة في الدين بدلا من التدخل العسكري الذي ستكون تكلفته باهظة الثمن على اليمن وشعبه بشريا وماديا ورفضا له من شرائح وقوى معتبرة مع ما سيولده من أحقاد وتعصب وفقدان للثقة وتراجع لفرص الحوار والمصالحة, هذا فضلا عن أن نتائج التدخل العسكري غير محسوبة العواقب, وقد تغرق المنطقة في أتون صراعات أعمق وأشد وفوضى عارمة وهو ما نراه ماثلا في العراق وسوريا وليبيا وأفغانستان ودول أخرى, إذ أن التدخلات العسكرية واستخدام القوة لم تجد نفعا وإنما زادت الأوضاع سوءا والنار اشتعالا وأدخلت أطرافا جديدة في الصراع ورفعت من مستوى التشدد والتعصب وبؤر الإرهاب. وعمان ترفض ( المشاركة بقواتها العسكرية في أتون حرب قد تفتح ثغرة في جدار وحدة الشعوب الخليجية لتطل عبرها الطائفية والمذهبية والعرقية برأسها فتأكل الأخضر واليابس ... ). هذا جانب ومن جانب آخر فإن هذه المواقف والتوجهات والاستقلالية في القرار إنما ترتبط بسياسات دولة تستمد خصائصها من إرث حضاري متجذر في أعماق التاريخ وثوابت أثبتت الأيام نجاحها وقيادة لها أسلوبها ونهجها ومنطلقاتها المرتبطة بظروف السلطنة وثقافتها ووضعها الداخلي وخبرتها الطويلة وفهمها للأمور, وعلى كل دولة ونظام سياسي أن يتفهم دوافع تلكم المواقف وخلفياتها , ويحترم إرادة وخيارات كل دولة وفقا لتلك الظروف والثوابت التي قامت عليها السياسة الخارجية, وعلى الشعوب في كل دولة أن تقف مع قياداتها وأن تقدر مواقفها, وأن يتوقف الأفراد عن تقديم مرئياتهم وتحليلاتهم وتصوراتهم الهجومية والناقدة والتي لا تجانب في معظمها الصواب, لأن من شأن ذلك أن يؤدي إلى التوترات وإلى تعميق الخلافات وإلى مزيد من التعصب في المواقف, إلا في اطار الرأي العقلاني الهادئ والمتزن والرد المقنع والمدافع عن موقف القيادة والمعبر عن سياساتها الخارجية وغاياتها الإنسانية والحوار الرصين البعيد عن المواقف الانفعالية والولاءات المقيتة لهذا الطرف أو ذاك أو معبر عن توجه مذهبي أو سياسي, والتزام المواطنين في التعبير عن الرأي والحوار بقيم المواطنة والولاء للقيادة الحكيمة التي تحفظ لعمان مصالحها ومكانتها وللعمانيين سياستهم المتزنة ورؤيتهم السديدة ومواقفهم الثابتة, ففي كل التجارب والأحداث التي طواها التاريخ أو التي ما زال المسرح السياسي يعيش فصولها المأساوية تدميرا للمقدرات العربية والروح الإنسانية وهتكا للأعراض وسفكا للدماء التي حرمها رب العزة واستباحة للحقوق وانهيارا لمقومات الحياة الكريمة ولركائز الدولة والجيوش والمؤسسات الأمنية ونزوحا هائلا للسكان بحثا عن الأمن ولقمة العيش أثبتت سياسة السلطنة وموقفها المعلن ورؤيتها العقلانية بأنها كانت على حق وكانت مدركة لعواقب التدخلات المباشرة ولسياسة توظيف المال والسلاح والدعم المعنوي في الصراع ونتائج الانحياز لطرف على حساب آخر , وإننا كعمانيين نشعر بالفخر والاعتزاز أننا نعيش تحت ظل سياسة لم تشارك في سفك دماء الأشقاء ولم تكن طرفا أو سببا في الأزمات والصراعات والحروب التي تعيث فسادا في عالمنا العربي, ولم تتهم يوما بتمويل ارهاب أو عمليات قتل واغتيال أو التسبب في بروز التشدد أو انتماء مواطنيها إلى منظمات إرهابية , ونقدر لسياستنا الخارجية أنها انحازت وساهمت ووقفت مع مبادئ السلام وقيم الحوار وحقوق الإنسان وكانت مبادرة دائما وداعمة بكل ما تملك في عمليات الاغاثة والمساعدات الإنسانية والقيام بالأعمال الخيرية, وسيحفظ لها التاريخ ذلك وستعترف السياسات الأخرى بحكمة وحنكة ورؤية وسداد السياسة العمانية التي يديرها قائد عمان المفدى ـ حفظه الله وأمد في عمره.