[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/ahmedalkadedy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د.أحمد القديدي[/author]
”.. لولا الغباء البشري لما لقي 150 مسافرا أمنا مصير القتل البشع على قمم جبال (الألب) يوم الأربعاء الماضي! الغباء هو الذي قتل الضحايا والسبب المرجح وشبه الأكيد أن الباب المصفح الذي يفصل بين قمرة القيادة وكابينة المسافرين لم ينفتح حينما غادر قبطان الإيرباص مقعد القيادة لقضاء حاجة بشرية ثم عاد فوجد هذا الباب مغلقا....”
ـــــــــــــــــــــــــ
أستسمح القراء الكرام أن أخذهم من أيديهم لحظات لأبتعد بعقولهم قليلا عن السياسة بمفاهيمها الراهنة الدموية لأحدثهم عن إرهاب مجهول لا يذكره الناس وهو إرهاب من نوع مختلف (أعدم) هذا الأسبوع 150 ضحية بريئة في حادثة سقوط طائرة ( لوفتانزا وينجز) بين برشلونة ودوسلدورف. وهو ليس إرهابا دينيا ولا طائفيا ولا سياسيا بالمرة بل هو إرهاب ناتج عن الغباء البشري! ولولا الغباء البشري لما لقي 150 مسافرا أمنا مصير القتل البشع على قمم جبال (الألب) يوم الأربعاء الماضي! الغباء هو الذي قتل الضحايا والسبب المرجح وشبه الأكيد أن الباب المصفح الذي يفصل بين قمرة القيادة وكابينة المسافرين لم ينفتح حينما غادر قبطان الإيرباص مقعد القيادة لقضاء حاجة بشرية ثم عاد فوجد هذا الباب مغلقا وإغلاقه تقرر بقانون جديد سنته المنظمة الدولية للطيران المدني بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 والتزمت كل الشركات الجوية بهذا القانون وأغلقت أبواب القمرات بطريقة محكمة لكنها نسيت أمرا مهما محتمل الوقوع وهو الذي حصل للطائرة المنكوبة وهو أن الرجل الثاني الذي يبقى على مقعد القيادة يمكن أن يصيبه مكروه من نوع وعكة صحية أو مجرد غيبوبة عابرة أو لوثة عقلية (كما حدث بالفعل للطائرة المنكوبة) فلا يستطيع أحد فتح الباب الملعون لسبب من هذه الأسباب فيكون مصير كل المسافرين في طرفة عين عرضة للكارثة وهو ما حدث فعلا وعلمنا أن مساعد القبطان وهو شاب ألماني اسمه (أندريا لوبيتس) امتنع عن فتح الباب فلم يلتحق القبطان بمقود الطيارة وحرك (أندريا) بعد ذلك أجهزة الهبوط بينما كان القبطان يحاول تهشيم الباب بفأس بلا نتيجة! معضلة الغباء البشري أن كل مسؤولي المنظمة الدولية للطيران المدني وكل مسؤولي شركة (لوفتانزا) لم يتوقعوا إمكانية حدوث فاجعة إذا ما أصبح فتح هذا الباب مستحيلا ! وإذا ما بقي واحد فقط بمفرده مسؤولا عن أرواح 150 أو مسافرا أو أكثر ! نعم هو الغباء الذي أحدثكم عنه اليوم. إن الذين يعتقدون أن الإنسانية بلغت درجات عليا من الذكاء في هذا العصر بفضل التقدم التكنولوجي المذهل هم مخطؤون وواهمون لأننا في عديد المجالات تأخرنا ولم نتقدم وتقهقرنا إلى الوراء بل وأصبح الغباء ثقافة عامة نشترك فيها جميعا دون أن نفكر وهي ثقافة تعود بنا إلى ما قبل التاريخ ونحن غافلون!
أبدأ معكم سرد مسلسل الغباء بقصة (حقيبة السفر) التي يحملها كل مسافر من المطار إلى محطة القطار وإلى الفنادق وأثناء الإجازات اسألوا أباءكم وأمهاتكم يقولون لكم كنا طول العمر نحملها بالأيدي المتعبة وهي ثقيلة وهي نفس الحقائب التي تشاهدونها في الأفلام أبيض وأسود! ظللنا أنا وجيلي نتحمل عبء (الشنطة) عقودا من الزمن .... إلى آواخر السبعينيات من القرن الماضي فاكتشف صاحب مصنع أميركي من كولورادو (سامسونايت) أن الحقيبة يمكن أن يكون لها عجلتان تسحب سحبا عوض أن تحمل فصنع لها العجلتين وزودها بمقبض معدني نسحب به الحقيبة وراءنا بطريقة سلسة! ومنذ ذلك العام خف العبء على البشرية وتنفسنا الصعداء بعد أن حملنا الحقيبة ـ المصيبة نحن وأباؤنا وأجدادنا على مدى أربعة آلاف سنة من تاريخ البشرية الغبية منذ عهد الفراعنة والكنعانيين والفينيقيين إلى سنة 1980!
ومنذ ثلث قرن فقط أصبحت الحقائب كلها بعجلتين! ثم ويا لطول عمر الغباء جاء عام 1990 فاهتدى صانع حقائب ياباني إلى أن الحقيبة يمكن أن تجر وراءنا على أربع عجلات بدل اثنتين فأصبحنا نقتني الحقائب (أم أربع) وازدادت راحة المسافر وكل الحقائب اليوم نجرها وراءنا على أربع! وفي عام 2009 طور نفس الياباني جزاه الله خيرا هذه الحقيبة ليثبت فيها محركا صغيرا يشحن بالبطارية لنتحكم فيها بالريموت (الكوموند) وأصبحت الحقيبة تتبعنا لوحدها كما يتبعنا أكرمكم الله كلب أليف في أروقة المطارات! هل عرفتم معي معنى الغباء البشري في هذا المجال البسيط ؟ أربعة ألاف عام ونحن نحمل الحقيبة ولم نهتد إلى إختراع بسيط وساذج وهو تركيب العجلات على الحقائب! في حين اهتدى علماؤنا إلى ابتكار أسلحة الدمار والقتل!
في سجل مختلف كنا في فرنسا نرى في أهم الشوارع بناءات بلدية بسيطة صالحة لقضاء الحاجات البشرية العادية ثم قررت البلديات تعويضها بنوع جديد من الكابينات الألكترونية المصفحة ولها أبواب معدنية غليظة سميكة تفتح وتغلق أوتوماتيكيا بوضع (يورو) أو اثنين في فتحة وهي أشبه بالمخبإ النووي الذي كان يلجأ إليه الناس في حال هجوم نووي أو أشبه بخزينة فولاذية في البنك المركزي لحفظ سبائك الذهب!. وهنا لا بد أن أقول لكم أن طفلة عمرها 13 سنة دخلت لمثل هذا المكان المرعب منذ 10 سنوات في مدينة مرسيليا وانغلق عليها هذا الباب ثم لم ينفتح وطرقت الضحية المسكينة لكن لا من مجيب وكانت في عز حرارة الصيف فماتت مختنقة وراء هذا الباب القاتل! وأنصح زوار فرنسا أن يتوجهوا إلى أقرب مقهى في مثل هذه الحالات البشرية العادية ويدفعوا 3 (يورو) لقهوة حتى لو لم يشربوها ولا يخاطروا بحياتهم قربانا للغباء البشري!
وفي سجل ثالث عندما كنت في إجازتي بضواحي باريس من 4 سنوات قرأنا في الصحف أن مراهقا فرنسيا عمره 16 سنة يسكن قريبا من بيتي مات مختنقا في سيارة (بي إم دبليو) !!! كيف مات هذا الولد المليان حيوية وأملا ؟ نفس مأساة الأبواب القاتلة فقد خرج مراهقان شقيقان للسهر خارج البيت واستعملا سيارة والدهما (بي إم دبليو) وعادا الساعة الواحدة ليلا فخرج الولد الأكبر من السيارة وبقي الولد الأصغر نائما على المقعد وعن حسن نية اعتقد الذي غادر السيارة أن أخاه سيتبعه بعد لحظات لكنه ضغط على زر غلق الأبواب وهو نازل ودخل البيت ونام. الذي حدث هو أن الولد استيقظ بعد ساعتين وكانت حرارة شهر أغسطس شديدة فحاول أن يفتح الأبواب... ولكن هيهات فصانع السيارة جعل إغلاق السيارة بالزر يمنع من فتح الأبواب من الخارج وأيضا من الداخل !!! لماذا؟ لا أحد استطاع تفسير هذا اللغز! فغلق الأبواب من خارج السيارة مفهوم ومطلوب لكن غلقها من داخلها لا تفسير له سوى الغباء البشري القاتل! وعند طلوع الشمس وبعد أن طرق الولد الأبواب وحاول تهشيم الزجاج ولم يفلح... مات مختنقا ليجده والداه وشقيقة جثة هامدة في الصباح! الغباء البشري ليس له حدود وأنا أترحم على الماضي الذي كانت فيه المصاعد الكهربائية زجاجية شفافة تطلع وتنزل بين السلالم ونرى من فيها بكل أمان أما اليوم فهي بمثابة (قبر الحياة) كقبور الفراعنة في الأهرامات وضحايا تعطلها المقبورون فيها عديدون كل سنة في العالم ! أرجو لكم السلامة من تعطل العقول قبل تعطل المصاعد.