قراءة في (أسبوع المواطنة الإنسانية ودورها في تقارب والوئام الإنساني)

محمد السماك:
عالمية الإسلام في رسالته ودعوته تستمدان أسسهما من المساواة التامة بين الناس جميعهم

ـ الحكمة الإلهية شاءت أن يكون الناس رغم وحدانية الخالق ووحدة الخلق أمماً وشعوباً مختلفة

ـ أرسى الله قاعدة التعارف المكملة لقاعدة الاختلاف .. والقاعدتان معاً تشكلان الأساس الذي تقوم عليه الأخوّة الإنسانية

ـ التعارف هو الجسر الذي يربط بين الجماعات المتنوعة والمختلفة .. ولكن لا تعارف من دون معرفة

قراءة ـ علي بن صالح السليمي:
وفق الرؤيـة السامية لحضرة صاحب الجلالة السُّلطان المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ في سياق خدمة التفاهم والوئام الديني والحضاري بالإضافة إلى أنّه مشاركة من السلطنة في تنفيذ القرار الأممي رقم:(65/5) لعام 2010م بجعل الأسبوع الأول من شهر فبراير من كل عام أسبوعاً للوئام بين الأديان، نظّم مركز السُلطان قابوس العالي للثقافـة والعُلوم هذا العام أسبوع (المواطنة الإنسانية ودورها في التقارب والوئام الإنساني) للعام الرابع على التوالي والذي أقيمت فعالياته بقاعة المحاضرات بجامع السلطان قابوس الأكبر ببوشر، حيث كان من ضمن أعماله ملتقى علمي له محاوره وبحوثه بمشاركة عدد من العلماء الباحثين والمفكرين من داخل وخارج السلطنة.
الغاية من تنظيم هذا الأسبوع تيسير التواصل بين الثقافات الإنسانية من أجل تحقيق وتأكيد دور الحوار في تعزيز السلام والاستقرار في العالم عبر زيادة وعي الرأي العام بالقضايا الرئيسة ذات الصلة بالموضوع، وتعزيز التفاهم من أجل إبراز ما تحث عليه الأديان والمبادئ الإنسانية العامة، من التسامح والتعاون على ما فيه الخير للبشرية ..
ومن ضمن البحوث المقدمة في هذا الملتقى العلمي القيّم .. بحث بعنوان : "التعارف في الإسلام (الغاية .. والمنهج)" للباحث الدكتور محمد السماك.
يقول الباحث في مقدمة ورقة عمله: لقد أوحى الله سبحانه وتعالى لرسوله الكريم محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وسلم) بالإسلام ليكون رسالة للعالمين، ولعالمية الرسالة الإسلامية إشارات واضحة في القرآن الكريم المصدر الأول للتشريع الإسلامي أورد منها ثلاثاً، تحمل الإشارة الأولى الآية الأولى من سورة النساء. تقول هذه الآية:(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة)، حيث إن في ذلك تأكيداً على المساواة بين كافة أجناس البشر مهما اختلفت أعراقهم وألوانهم، ومهما تباينت أديانهم ومذاهبهم، فجميع الناس ـ دون استثناء ـ مخلوقين من نفس واحدة، وتتمثل الإشارة الثانية في الآية "70" من سورة الإسراء، وفيها يقول الله تعالى:(ولقد كرّمنا بني آدم ..)، والتكريم الإلهي هنا هو لبني آدم أي لكل الناس، بصرف النظر عن أي انتماء عرقي أو ديني أو ثقافي أو قومي، أما الإشارة الثالثة فتعكسها الآية "107" من سورة الأنبياء . في هذه الآية يخاطب الله عز وجل النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) بقوله:(وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) أي: لكل الناس في العالم كله، وليس للعرب بني قومك فقط .
من هنا فان عالمية الإسلام ـ أي: عالمية رسالته وعالمية دعوته تستمدان أسسهما من المساواة التامة بين الناس جميعهم في الخلق من نفس واحدة، ومن التكريم الإلهي لبني آدم ـ أي للإنسان ـ الذي أورثه الله الأرض واستخلفه فيها .
موضحاً بقوله: غير أن الحكمة الإلهية شاءت أن يكون الناس رغم وحدانية الخالق ووحدة الخلق، أمما وشعوباً مختلفة، فالوحدة الإنسانية تقوم على الاختلاف والتنوع وليس على التماثل والتطابق، ذلك أن الاختلاف آية من آيات عظمة الله ومظهراً من مظاهر روعة إبداعه في الخلق . يقول القرآن الكريم:(ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم ان في ذلك لآيات للعالمين) (الروم ـ 22)، وبالتالي فإن الاختلاف العرقي لا يشكل قاعدة لأفضلية ولا لدونية. فهو اختلاف في إطار الأسرة الإنسانية الواحدة، يحتم احترام الآخر كما هو وعلى الصورة التي خلقه الله عليها.
وقال: إذا كان احترام الآخر كما هو لوناً ولساناً (أي أثنياً وثقافياً) يشكل قاعدة ثابتة من قواعد السلوك الديني في الإسلام، فإن احترامه كما هو عقيدة وإيماناً هو إقرار بمبدأ تعدد الشرائع السماوية واحترام لمبدأ حرية الاختيار والتزام بقواعد عدم الإكراه في الدين، فالقرآن الكريم يقول:(لكل وجهة هو موليها) (البقرة ـ 148) وذلك في إشارة واضحة إلى تعدد التوجهات، ويقول أيضاً:(وما بعضهم بتابع قبلة بعض) (البقرة ـ 145)، (لكل أمة جعلنا منسكاً هم ناسكوه فلا ينازعنّك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم) (الحج ـ 67)، (كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون) (الجاثية ـ 45) ، ومعنى ذلك أنه مع اختلاف الألسن والألوان، كان من طبيعة رحمة الله اختلاف الشرائع والمناهج ، وهو ما أكد عليه القرآن الكريم بقوله: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم امة واحدة ولكن ليبلوكم فيما أتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون) (المائدة ـ 48).
مؤكداً بأن الاختلاف الثقافي والعرقي والديني والمذهبي باقٍ حتى قيام الساعة، والحكم فيه يومئذ لله. والتعامل مع بقائه لا يكون بإلغائه ولا بتجاهله، بل بالتعرف اليه وتقبّله واحترامه كسنّة دائمة من سنن الكون.
* غائية التعارف:
وقال الباحث: لا يتناقض الاختلاف مع الوحدة الإنسانية، فالعلاقة التكاملية بين الوحدة والاختلاف تبرز من خلال المبادئ الثلاثة التالية التي قال بها القرآن الكريم: المبدأ الأول هو التداول:(وتلك الأيام نداولها بين الناس) (آل عمران ـ 140) إذ لو كان الناس كلهم شعباً واحداً أو اثنية واحدة أو على عقيدة واحدة وفكر واحد، لما كانت هناك حاجة للتداول، ولأنهم مختلفون، ولأن الإرادة الإلهية شاءت أن يكونوا مختلفين ، كان لا بد من التداول. والتداول يعني تواصل الإنسانية واستمرارها بما هو مناقض لمقولة نهاية التاريخ التي طلع بها المفكر الأميركي من أصل ياباني فوكاياما . فالتداول حياة، والنهاية موات، والمبدأ الثاني هو التدافع:(ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) (البقرة ـ 251)، فالتدافع ـ وليس التحارب ولا التصادم ـ هو تنافس ارتقائي وتطويري للمجتمعات الإنسانية المختلفة؛ ذلك أن المجتمعات هي كالمياه، إذا ركدت أسنت، وإذا تحركت وتدافعت أمواجها، تعانقت مع حركة الضوء والريح مما يوفر لها عناصر الحياة والانتعاش والنمو والتقدم، فمن دون الاحتكاك الفكري والتلاقح الثقافي والتدافع الحضاري بين الناس المختلفين والمتنوعي الثقافات، يفقد الذهن عطشه إلى المعرفة التي هو عود الثقاب الذي يلهبه. إن الاختلاف بين الناس وما يشكله الاختلاف من تدافع هو احد أهم مستلزمات عدم فساد الأرض، أما المبدأ الثالث فهو التغاير:(وما من دابة في الأرض ولا طائر بجناحيه الا أمم) (الأنعام ـ 38)، (ولكل أمة رسول) (يونس ـ 10)،(كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم) (الرعد ـ 13)، فالتغاير والاختلاف هو القاعدة، وهي قاعدة عصية على التجاوز، تشكل الثابت الدائم في المجتمعات الإنسانية منذ بدء الخلق وحتى نهاية الزمن ، ولذلك أرسى الله قاعدة التعارف المكملة لقاعدة الاختلاف والتغاير . والقاعدتان معاً ، تشكلان الأساس الذي تقوم عليه الأخوّة الإنسانية التي لا سلام ولا استقرار من دونها.
وقال: لقد قال الإسلام بالتعارف بين الجماعات البشرية ولم يقل بالتسامح، كان الفيلسوف الألماني نيتشه على حق عندما اعتبر "التسامح إهانة للآخر" لما يتضمنه من فوقية المتسامِح تجاه المتسامَح معه.
مشيرا إلى أن علاقة الإسلام بالرسالات السماوية التوحيدية ليست علاقة تسامحية ولكنها علاقة إيمانية، ذلك أن إيمان المسلم لا يكتمل إلا بالإيمان بكل الأنبياء والرسل وبكل الرسالات التي أوحى الله بها، ففي القرآن الكريم نص واضح بذلك (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون)(البقرة ـ 136) .
وقال: وشتان بين العلاقة القائمة على الإيمان، وتلك القائمة على التسامح. فالعلاقة الأولى ندية تقوم على الاعتراف بالحق واحترام الاختلاف، بينما الثانية فوقية، تقوم على انكار الحق والاستعلاء على المختلَف معه.
مبيناً بقوله: إن من شأن التعصب للدين أو للمذهب أو للجماعة أن يقيم جزراً من التنوع المتباعدة والجاهلة للآخر، وبالتالي المتشككة فيه والمستنفرة دائماً لمواجهته. وهذا تنوع خارج إطار الوحدة. بل رافض لها. أما التعارف فإنه على العكس من ذلك يقيم وحدة في إطار التنوع، تعرف الآخر تعترف به، وتبادله الاحترام والثقة والمحبة، وهذه وحدة في إطار التنوع، وإن التعارف من حيث إنه يقوم على المعرفة، هو إحدى أسمى هبات الله للإنسان، والأساس الذي تقوم عليه إخوة إنسانية تغتني بالاختلاف وتحترمه وتجعل منه قاعدة للائتلاف والتوافق وليس للخلاف والتنابذ.
* منهجية التعارف:
وقال الباحث: لقد أرسى الإسلام ثلاث قواعد أساسية تقوم عليها الوحدة في التنوع: القاعدة الأولى وهي: الوحدة الإنسانية بمعنى أن الناس جميعاً واحداً أمام الله الذي خلقهم من نفس واحدة. ولقد قال القرآن الكريم:(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة) (النساء ـ 1) أي: أن الناس متساوون في الخلق، وهم متساوون أيضاً في الكرامة . كما ذكرنا آنفاً . ولكن مع المساواة في الخلق، ومع المساواة في الكرامة، جعل الله بإرادة منه الناس شعوباً وقبائل، ولحكمة هو يعلمها، الناس مختلفين، ولو شاء لجعلهم أمة واحدة، والقاعدة الثانية هي: التنوع الإنساني، حيث تتابع الآية الكريمة:(وجعلناكم شعوباً وقبائل ..) أي: أن هذا التنوع على ما فيه من اختلافات جُعل بإرادة إلهية، وأن وجوده واستمراره هو تجسيد لهذه الإرادة الإلهية وتعبير عنها، أما القاعدة الثالثة فهي: أن الهدف من هذا التنوع والاختلاف هو التعارف بين الناس تحقيقاً لوحدة تحترم التنوع وتحفظه وتحافظ عليه. حيث تكتمل الآية القرآنية بتحديد الحكمة من التنوع بقولها: (.. لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم).
موضحاً بقوله: ان التعارف هو الجسر الذي يربط بين الجماعات المتنوعة والمختلفة. ولكن لا تعارف من دون معرفة؛ ذلك أن التعارف يقوم أساساً على المعرفة. ويفترض بالآخر أن يكون مختلفاً حتى نتعرف اليه، ويفترض أن نكون نحن مختلفين عنه حتى يتعرف إلينا. ومن دون هذا الاختلاف ما كانت هناك حاجة للمعرفة المتبادلة، وما كان للتعارف أساساً أن يكون، ومن هنا فإن الدعوة القرآنية للناس ليتعارفوا هي في حد ذاتها دعوة لهم للتعرف على ما بينهم من اختلافات وللاعتراف بهذه الاختلافات، ولإدراك حتمية استمرارها، ولبناء مجتمع إنساني واحد ومتناغم على قاعدة معرفة المختلفين وتعارفهم.
* الحاجة إلى التعارف الإنساني:
وقال في هذا الجانب: ان هذه المنهجية للتعارف بين الناس في القرن الواحد والعشرين تبدو في حاجة إنسانية ماسة ربما أكثر من أي وقت مضى، وذلك في ضوء الأمور الآتية:
الأمر الأول هو: تحوّل القضايا الوطنية (مثل حقوق الأقليات وحتى الأفراد وحرية العبادة وسواها) إلى قضايا عالمية إنسانية، وكذلك تحول القضايا العالمية (مثل السلام والتنمية وحركة رؤوس الأموال والاستثمارات والخدمات وتبادل السلع) إلى قضايا وطنية محلية، والأمر الثاني هو أن القرار الوطني في دولة ما لم يعد ملكاً حصرياً لأصحابه فقط، ولكن عملية اتخاذه باتت جزءاً من عملية أوسع تتداخل فيها عناصر ما وراء الحدود الوطنية وتلعب دوراً أساسيا مؤثراً، أما الأمر الثالث فهو انحسار مساحات التنوع الثقافي وتراجع فرص المحافظة على الهويات الوطنية التي توفر لهذا التنوع قوة استمراره، وإن الشعور بالاختناق الذي بدأت تعاني منه ثقافات متعددة يعود إلى تمتع ثقافة واحدة بقدرات متطورة للهيمنة على ثقافات العالم وفرض قيمها الذاتية عليها واعتماد هذه القيم مقياساً للتخلّف او للتحضّر، وهنا يقول المستشرق الإنكليزي مونتغمري وات في كتابه "الفكر السياسي الإسلامي:" إذا ألقينا نظرة عامة على العلاقة بين الدين والسياسة، فإن من المفيد الاهتمام أولاً بموقع الدين في حياة الفرد، فبالنسبة للشخص الذي يشكل الدين عنده معنى خاصاً، وليس مجرد تعلّق شكلي، يمكن التأكيد على نقطتين:
النقطة الأولى هي: أن الأفكار التي تتضمنها ديانته ترسم له الإطار الثقافي الذي يحيط بنشاطاته وبأعماله كلها، ومن خلال هذه العلاقة تكتسب نشاطاته أهميتها، كما أن هذه العلاقة قد تؤثر بطرق معينة على البرنامج العام لحياته، والنقطة الثانية هي: أن الدين من حيث إنه يؤدي بالمؤمن إلى وعي المضمون الأوسع الذي تقوم عليه الأهداف الممكنة لحياته، فإن من الممكن أن يولد ـ الدين ـ لديه الحوافز المحركة لسائر النشاطات التي يقوم بها، وبالفعل فإنه من دون هذه الحوافز الدينية ، لا يمكن القيام ببعض هذه النشاطات.
وقال: ومن خلال هاتين النقطتين يتبين لنا كيف ان الدين يحتلّ موقعاً مركزياً في حياة الإنسان، ليس من حيث إنه يقرر الكثير من التفاصيل (مع أنه يفعل ذلك بالفعل في بعض الحالات)، ولكن من حيث إنه يوفر للإنسان أهدافاً عامة في الحياة، ويساعده على تركيز وعلى تجميع قواه من أجل تحقيقها.
مؤكدا بقوله: ان هذا يعني أنه لا قيمة لحياة الإنسان إذا لم تكن له خلفية ثقافية يستمد منها معنى لحياته، وبالتالي فإن تذويب أي ثقافة خاصة هو تذويب للقيم التي تقوم عليها إنسانيته، وتدمير لها، وعندما يتداخل الدين مع الثقافة أي عندما يكون الدين مكوّناً بامتياز، أو المكوّن الأساس للثقافة، يأخذ الدفاع عن الخصوصية الثقافية بعداً مقدساً على النحو الذي نشهده اليوم في مواقع متعددة من العالم ، بما في ذلك ـ بل وخاصة ـ في عالمنا، ولكن عندما تكون الخلفية الثقافية مبنية على اللا معرفة، أو على سوء المعرفة من خلال صور نمطية سلبية عن الآخر، فإن هذه الثقافة تصبح أداة لتدمير العلاقات الإنسانية، والتاريخ حافل بالأمثلة على ذلك.
.. للحديث بقية في الأسبوع القادم.