‏[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/abdellatifmhna.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]عبداللطيف مهنا كاتب فلسطيني [/author]
بانتهاء الحرب الباردة إثر الانهيار السوفيتي المباغت وتفرُّد الولايات المتحدة الأميركية بآحادية القطبية، بالغ كثير في مختلف جهات العالم في تلمُّس سبل تكيفهم مع ذاك المتحول الاستراتيجي المداهم، بعد أن خُيَّل للكثرة منهم حينها، أو الذين لم يكن لديهم قدرة على تخيُّل غير ما تخيلوه، أن واشنطن قد أنشبت مخالبها العظمى وحدها وإلى ما شاء الله بتلابيب القرار الدولي، وأنه ما من إفلات له بعدها من متجبِّر براثن قدرتها المهولة، وأقله إلى مدى غير منظور. تساوى في هذا حلفاؤها في غرب ملحقتها القارة الأوروبية العجوز وأعداؤها السابقون، أو أيتام الاتحاد السوفيتي، في شرقها، مع ما خلاهم من مستضعفي المعمورة. وبالتالي، لم يك غريبًا أننا قد حظينا في حينه بمن يتحفنا بنظرية نهاية العالم، ولا بمن يبشِّرنا بالقرن الأميركي. أما نحن في بلادنا العربية فقد سجَّلنا سبقًا وحتى لم ينتظر ذاك المتحوِّل، منذ أن كانت مذبحة الإرادة العربية التي أرَّخت لها اتفاقية "كامب ديفيد" الكارثية، مسبوقةً وممهَّدًا لها بمقولة السادات الشهيرة إن 99% من أوراق الحل، حل الصراع العربي الصهيوني، في يد الولايات المتحدة الأميركية. ومن حينها وحتى اللحظة، سارت عقارب الساعة التصفوية للقضية العربية في فلسطين على هدى باطل هذه المقولة خطوةً خطوةً، وتتالت التنازلات، أو قل الانهيارات والانحدارات، العربية والفلسطينية، المتعددة الأوجه والأشكال على رتمها واستلهامًا لها.
ذاك التصوُّر لذاك المتحول المداهم لعالمنا نجمت عنه بالضرورة اثنتان، أولاهما، أنه إذا عطس القابع في المكتب البيضاوي في واشنطن تمت المسارعة لترجمة عطسته في أربع جهات الأرض، وبكافة لغاتها، وبما يتفق غالبًا مع هواجس، أو أوهام، أو رغبات، أو مواقف، مختلف مترجميها المحليين ولغاتهم.
وثانيهما، أنه، ونظرًا للعلاقة العضوية بين الولايات المتحدة و"إسرائيلها"، والتي يوثق من عراها ويثبِّتها تحالف تخادمي مصلحي متبادل، يستند أساسًا إلى دور ووظيفة الأخيرة في سياق الاستراتيجية الأميركية في المنطقة ورؤية واشنطن لمصالحها فيها، تمت المبالغة في مدى تأثير اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة وأسطرته، كما سادت لدى كثر في العالم، وحتى في بلادنا حينها ولا نعدمهم حتى الآن يقبعون في راهننا، بأن الطريق إلى واشنطن تمر حصرًا بتل أبيب، وهما أمران حرصت الصهيونية العالمية على تعميمهما وترسيخهما ما استطاعت ونجحت إلى حد بعيد.
بعد الحادي عشر من سبتمبر الأميركي وغزو أفغانستان واحتلال العراق، طلع من بيننا من نظَّر لنا مفترضًا: أما وإنه قد أتانا الأصيل الأميركي بنفسه واضعًا يده مباشرةً على المنطقة فإن حاجته إلى وكيله الصهيوني قد انتفت، أو أقله، قد قلت، أو هي لن تعد كسابق عهدها، بانيًا على رمال ما افترضه قصورًا من أوهامه المحلِّقة، وأذكر أن البعض قد حدد زمنًا لا يتعدى حينها نهاية ذاك العقد لزوال الكيان الصهيوني! وخلاصته، أن مراهنة المراهنين على أوراق السادات إياها قد زادت واستشرت في دنيا العرب وعم التسويق للأوهام التسووية بالجملة والمفرَّق انتظارًا لغيث بروق الوسيط الأميركي الخلبية المحتبس على مدى ناف على العقدين.
كان أهم ما نجم عن هذين الغزوين بعد تدمير البلدين هو انكشاف محدودية قدرة آلة الفتك الأميركية الهائجة والمنفلتة على هولها. هزمت في أفغانستان وتبحث حتى اللحظة عن سبيل للمنجاة من ورطتها الأفغانية، وفشلت في العراق فانكفأت وهربت بجلدها أرضًا لتعود الآن جوًّا، وأرَّخ هذان الغزوان بحق لبداية بائنة لأفول امبراطوري للإمبريالية الأميركية المتغوِّلة، وبداية لإطلالة تلوح لمراكز القوى الكونية الصاعدة والمُعجِّلة إطلالاتها لتآكل آحادية القطبية الآفلة والمعلنة لبداية انحسارها المشهود، الأمر الذي أجبر الولايات المتحدة على ما قلناه في حينها تغيير لون وجهها لا جوهرها فجاءت بباراك حسين أوباما لكي يؤخِّر، أو يُرشِّد، أو يُنظِّم، التراجع الأميركي المحتوم... لكنما المراهنين على بالي الأوراق الساداتية التسعة والتسعين ما زالوا بيننا بل وزادوها فجعلوها مئةً في المئة. تعالى ضجيج توقُّعاتهم عندما اقتحم نتنياهو منبر الكونجرس محاولًا منع أوباما من الاتفاق مع الإيرانيين حول برنامجهم النووي. منهم من شخصن الخلاف بين الرجلين، ومنهم من غرق في تحليله استراتيجيًّا، وكلاهما انتظر مفاجآت ما سيترتب عليه... بيد أن غزوة نتنياهو انجلت عن عودة نتنياهو للسلطة، وتوقيع أوباما لاتفاق إطار جهد لعقده مع طهران. والخلاصة، أنه إذا تعلَّق الأمر بمصلحة الأصيل الأميركي فليس على الوكيل الصهيوني إلا الانصياع ومعرفة حدوده، وهذا ما كان، فبدلًا من منع نتنياهو للاتفاق يجهد الآن لعرقلته بغية تحسين شروطه... انجلت على ليس ثمة ما يفسد لراسخ عضوية العلاقة قضية، ولطمأنة "إسرائيلها" يعرض رئيس الولايات المتحدة عليها معاهدة دفاع مشترك، ويؤكد لها بأنها إن تعرضت "لأي هجوم... فإن أميركا ستكون هناك"... ومع هذا هل لنا بمن يتعظ؟؟!!
بعد توقيع اتفاق الإطار حول البرنامج النووي الإيراني عاد من ينظِّر بيننا مراهنًا على "قطيعة"، أو "فراق" استراتيجي قادم لا محالة بين المركز الأميركي وثكنته المتقدمة في بلادنا، متناسيًا أنه ما كان ليُوَقَّع ما وقِّع إلا لأن إيران تمسَّكت بحزم واقتدار ببرنامجها وأدارت بدهاء وحنكة معركتها فربحتها، هذا أولًا، وثانيًا، لأن أميركا ما عادت تكسب حروبها، ولم تأتِ بأوباما إلا لتنظيم بداية صيرورة أفولها، وإن هذا الأفول لا يعني بحال نهاية عدوانيتها، ولا عدائها لإيران، ولا تخليها بخاطرها عن هيمنتها على بلادنا، ولا استغنائها عن وكيلها الصهيوني مهما اختل وزنه استراتيجيًّا لتبدُّل في المعادلات الإقليمية والدولية، أو ما نشهده الآن وبأم العين سائرًا إلى التبدُّل.