[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/aliaklahersan.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]علي عقلة عرسان[/author]
بين الخنادق والفنادق، المقاتلين والساسة، المحافل الدولية والمتاجرين بالسياسة والسلع والناس، المدافعين عن حق والهاضمين لكل حق.. تغرق سوريا ويغرق معها شعبها، والأبرياء من أبنائها، في سيل دمهم المهراق وأنواع من البؤس يُلحقها بهم: بغاةٌ، وطغاةٌ، وعتاةٌ، ومغالون ومجرمون وإمعات.. لا يحكِّمون العقل ولا الشرع ولا القوانين، ولا يحكمهم شرع ولا عقل ولا قانون؛ ولا تعنيهم المصالح العليا للشعب والبلد، ويطورون الصراع الدامي الذي يشتد ويمتد في طول سوريا وعرضها منذ أربع سنوات ونيِّف. وسواء أكان الذي يسعر النار ويؤزها ويدفع باتجاه الاحتراق فيها: شخصًا، أم عصابة، أم حزبًا، أم طائفة، أم مذهبًا، أم فئة، أم دولة، أم تحالف دول.. فإن النتيجة واحدة عند من يحترق بتلك النار، ويتلقى الطعنات، ويدفع الثمن. والمخرج من ذلك واضح لمن يحكم المصالح العليا للشعب والوطن، ويرعى حق الله والناس، ويبدأ بـ: وقف الاقتتال، وإعادة المهجرين والنازحين والمشردين و.. و.. إلى ديارهم في الوطن بأمن واطمئنان، وتأمين أدنى مقومات العيش والأمن له.. والاحتكام للعقل والمنطق، ولكل ما تقتضيه القيم الدينية والإنسانية، وما فيه فهم واحترام روح القوانين، ومصلحة الوطن والشعب، وحقوق الإنسان التي منها: حقه في الحياة والأمن والكرامة. ومن ثم التعارك السياسي على دِمَن الحكم والسلطة؟!! لكن الوالغين في الدم السوري، من كل الجهات والاتجاها والمشارب والمذاهب وفي كل الجبهات، يعملون على غير ذلك، وبروح مناقضة لكل بناء.. ويقدمون كل الذرائع والأسباب ليستمروا في الاقتتال تحت كل الرايات تنفيذًا لكل الادعاءات.. وهم لا يهتمون عمليًّا إلا بتحقيق "غَلَبَة" من أي نوع، والغلبة تنطوي على قتل وظلم وإثم وإفك وغطرسة وجهل وفتك بالناس والوطن.. وهي عند بلوغها هذا الحد من البغي والغلو والشدة، وتعاميها عن كل ما سوى "الانتصار بالقتل والحرق والتدمير" تصل، أو بالأحرى تجسد: خواء أنفس وأرواح، وإفلاس عقول وضمائر، وتحجر قلوب وعمى بصائر.. وعجزًا عن كل أشكال البناء، بناء الإنسان وبناء الأوطان.؟! وحين يختار ذلك من يختاره، ويعليه على الحياة والوطن والإنسان والقيم والدين، فإنما يتجرد من السمو والتسامي وينحدر إلى الدرك الأسفل، في سلم مطالب المخلوقات البشرية ودرجات تصنيفها.. يختار البهيمية والوحشية: الوصول بأية وسيلة إلى المطالب والمصالح والمطامح والغايات، وإشباع الأحقاد، وإشاعة الكراهية، وإفساد الأرواح، ونهش الأكباد.. دون النظر في الأساليب والأدوات.. وعند بلوغ هذا الحد من حدود "المجد؟!"، تدخل البشرية مداخل الوحشية والتوحش، ويصبح لا هم لمن يعتلي خيل الدنيا إلا تحقيق "أناه" المريضة المتورمة، ومصالحه الضيقة، وشخصيته المنحلة المتحللة من الإنساني والديني والخلقي والقيمي والقانوني.. سواء أكان ذلك: عرقًا، أم دولة، أم حزبًا، أم تنظيمًا، أم طائفة، أم شخصًا أم.. أم.. إلخ، وما يهم الصنف من أولئك هو ذاته ومصالحه وأهدافه التي يرفعها فوق كل ما عداها، بصرف النظر عن المعايير والاعتبارات، وعما يتسبب به إصرار الطاغية المتعجرف على تحقيق ذاته، وفرض استعلائه، وخدمة مصالحه، وإرضاء من يواليه.. من ويلات وكوارث، تلحق بالخاص والعام، بالوطن والشعب، بالحق والعدل، بالدولة والمجتمع. وذلك النهج نهج مدمر للذات وللآخر.. يفضي إلى الفوضى والدمار، وإلى الإباحة والاستباحة، وإلى القوة العمياء سبيلًا ووسيلة لتحقيق كل غاية وادعاء، ويتسبب بما لا يمكن عده ولا حصره ولا وصفه من مآس للأفراد والأسر والمجتمعات بأسرها، بل وللدول والشعوب.. إنه في النتيجة نهج البؤس الذي ينشر الموت واليأس، ويفتح المسالك المفضية إلى المهالك، ويشق الدروب اللواحب إلى الإفناء والفناء.. وكل من ينتهج هذا المنهج، أو يسلك تلك المسالك بوعي، هو شريك في صنعها ومسؤول عن نتائجها، أيًّا كان دوره، ومن يزج فيها لأي سبب من دون أن يدخلها واعيًا مختارًا هو حطب النار بأيدي الأشرار.. أما الساكت عن ذلك فهو متواطئ على نحو، إلا إن كان عاجزًا، أو رافضًا لا يملك إلا الاعتراض في قلبه، وهو أضعف الإيمان، فمعذور إن اعتزل.
لقد طالت المأساة السورية، ويبدو أنها مرشحة لأن تطول، ولا يبدو أن قول من قال بضرورة وضع حد لمعاناة السوريين، بوقف الحرب خلال عام ٢٠١٥، يترافق مع جهود حثيثة صادقة ومخلصة لتحقيق ذلك. ففي الوقت الذي نتابع فيه مساعٍ وتصريحات واجتماعات تعمل على ذلك. نراقب "بقلق"ليس من نوع قلق بان كي مون، إعلانات من نوع إعلان الرئيس أوباما بتدريب قوات، وربما بتدخل على نمط التدخل في اليمن، ونتابع اشتداد المعارك وتصاعدها في سوريا، جنوبها وشمالها، وغربها وشرقها، وفي وسطها.. وتطورات الأحداث واستمرار المعارك في حوران وإدلب ومخيم اليرموك وحول دمشق.. إلخ، ونرى في ذلك خطرًا يضاعف المخاطر، وفعلًا ينذر باستمرار الاقتتال المأساوي المدمر. إن حقائق الأمر، والقراءات المجدية الدالة على الوضع والمؤثرة في القرار، هي هناك على الأرض، في الساحات الساخنة، وبيد من يقودون المعارك ومن يقف خلفهم ويمولهم ويرمي إلى تحقيق أهداف لهم ومن ورائهم.. وليست بيد ساسة مستجدين لا هم في العير ولا في النفير، ولا بيد من هم أقدم منهم ممن أتقنوا اللغو والتجارة بالمواقف والتهرب من المسؤولية عمن قتلوا وعذبوا وشردوا، ولا بيد أحزاب هي أدوات أو دكاكين وشعارات وادعاءات منافيخ.. ولا في اجتماعات المعارضات السياسية، ولا في المشاورات الموسكوفية، ولا في جنيف العصية على الفهم والتطبيق، ولا في يد المستر "ديمستورا" الذي ما زال يدور في فراغ "وقف إطلاق النار في حلب" ويراوح في المكان، شأنه شأن بعض أسلافه من مبعوثي مجلس الأمن الدولي.. حقائق الأمر تلك التي تشير إليها الوقائع الموجودة على أرض الواقع، يبدو أنها تشير إلى حسم بالقوة، إلى الحسم العسكري الذي يستمر إلى أن يُدْرَك، في ظل تأكيد من الأطراف المعنية كلها بأن حل المسألة السورية هو حل سياسي وليس حلًّا عسكريًّا؟! في مدى هذا الواقع نعيش على أرض التناقض الصداح بين الظاهر والباطن، الوجه والقناع، القول والفعل، السياسي والعسكري.. جبروت الموت والأمل بالحياة.
يقولون إن الأطراف المشاركة في الحرب السورية ـ وهي حرب أصبحت ذات امتدادات عربية إسلامية، على أسس مذهبية ـ كلها تعبت، وكلها تريد حلًّا..؟! ولكن يبدو بوضوح تام أن الموت لم يتعب ولن يتعب، وأنه يعربد بنشاط في تلك الساحة، وأن الغلو المذهبي الذي أصبح الفتنة لم يفتر بل يشتد ويتشدد ويتمدد، وأن المتغيرات الدولية والإقليمية والعربية الأخيرة، من الاتفاق المبدئي "الأولي" على الملف النووي الإيراني، إلى حرب التحالف العربي في اليمن ـ وهي حرب أخذت تكتسب بعدًا مذهبيًّا فتنويًّا ـ إلى المحادثات التركية الإيرانية الأخيرة في طهران، التي أكدت توجهًا نحو حل سياسي للمسألة السورية أعلنه روحاني وأردوغان، المتغيرات الأوروبية النسبية حيال الحكم في سوريا، إلى مشاورات موسكو في حلقتها الثانية، برفض الرافضين لها وإقبال المقبلين عليها.. يبدو أن كل ذلك لا ينطوي في حقائقه إلا عما يعبر عنه السلاح بأيدي المتقاتلين على الأرض على امتداد التراب السوري المضمخ بالدم.
والاقتتال هناك، في سوريا الوطن والشعب، التعدد والتمذهب، لن يحسم ببساطة.. وليس قبل أن تتحقق بعض المطالب الرئيسة التي لم توضع بعد بجدية وصراحة على طاولة البحث، وإن كانت تعمر أنفس الكثيرين ممن جلسوا إلى موائد الحوار والتشاور والتباحث في معظم الأزمنة والأمكنة التي دادر فيها كلام حول الأزمة/الحرب/الكارثة في سوريا. وتلك المطالب تضج بها فضاءات ووتضارب في تلك الفتاءات مما يشي باتجاه الريح إلى العاصفة وليس إلى الهدوء وإلى أن يصبح البحر رهوًا. ولا يوجد مصلحة لأي من تلك الأطراف بأن تثور عاصفة وبألا يكون البحر رهوًا.
أقول من موضع المكتوي بهذه النار، في هذا الزمن وفي كل ما مر لها في الزمن والتاريخ من أطوار: ادفنوا خلافاتكم حول الخلفاء الراشدين في الرمال، واتركوا شأنهم لله.. فكل منهم ليس بحاجة لأحد منك كي ينصره أو ينتصر له.. وأمرهم إلى الله سبحانه. ادفنوا خلاف علي ومعاوية، ومعارك الجمل وصفين والنهروان وغيرها في رمال التاريخ، ولا تحكموها في العقل والذاكرة لتكون الماضي والحاضر والمستقبل، واستفيدوا من دروس ذلك واستخلصوا منه العبر.. وأنتم تقتربون شيئًا فشيئًا من الصفاء والإسلام والقيم والثقة والسلم فيما بينكم، وتقتربون من تقوى الله، ومن خدمة الإنسان والإسلام، القومية والدين .. في الحاضر والمستقبل، وفي قراءة التاريخ واستنطاق الماضي بموضوعية ومنهجية علمية.. أبعدوا الغلاة والجهلة والمتعصبين والمتطرفين والانتهازيين عن مواقع التوجيه وصنع القرار.. لا تجعلوا أوشاب الناس حكامًا للناس، ولا تنصبوا أضعف القوم قادة وقضاة وسادة.. أنصفوا وفق معيار يقيمه القعل والعلم وتحميه التقوى.. صححوا ما لحق بواقعكم الثقافي والأدبي والفكري والفني المعاصر، ثم الماضي القريب، من خلل فادح، وأحكام أقامها التحزب والتطرف والجهل بالنقد والإعلام الموالي للأيديولوجيات والمذهبيات ولغير المعيار النقدي المنهجي.. وضعوا الإنتاج والأشخاص في تراتبيات سليمة وفق الأعمال في مراتب باحترام، لكي يستقيم الذوق والتأدب والتثقيف والعلم والتعليم، ومن ثم التربية والعمل والسلوك والحكم والعمل السياسي وفق معيار سليم. راجعوا بعلم وثقة ودراية واقتدار، ومن دون خوف ولا ممالأة ولا مراوغة ومداورة، راجعوا كل ما نصّبه الجهلة والسراق والأيديولوجيون المتشنجون، الذين يشكلون منطقًا منحرفًا أشد خطرًا على الوعي والعم والمجتمع والتقدم، من خطر أكثر القبائل تخلفًا في التاريخ.. راجعوا كل ما نصبوه ووضوعوه فوق الفوق، وقدوة القدوة، من إنتاج وأشخاص وتاريخ وتقويم وحكم، فذاك هو الذي شوه وما زال يشوه المشاهد الثقافية والفكرية والفنية والتربوية وحتى السياسية، ويقدم الأقزام عمالقة، والعمالقة أقزامًا، ويضيء ويعتم وفق هوى بالغ الأذى. ففي فعل ذلك إعادة واستعادة للرشد وسلامة الحكم، وفيه وضع الأمور في نصابها، وجعل المجتمع يمشي على قدميه وليس على رأسه. السياسة المفرطة في الانحدار والفساد والإفساد والبؤس هي نتاج مجتمع وظروف وقوى لا تعمل وفق معايير سليمة، قوى تشيع الفوضى لتهدم التراتبيات السليمة في كل مجال، تعمل وفق مصالح ومعايير وأهداف خاصة. فلتكن المصالح هي مصالح الناس كافة، ولتكن مصلحة الوطن هي التي تحكم المصالح الضيقة وتعلو فوق مصلحة فئات من الناس، ولتكن المعاييرك علمية موضوعية أخلاقية منهجية وموحدة، وصحيحة سليمة من حيث التطبيق.. لكي يشكل ذلك مدخلًا إلى وضع الشخص المناسب في المكان المناسب، ولجعل الناس يتقدمون ويقدّمون ويتراتبون وفق معيار سليم متفق عليه، ويقدرون بأعمالهم وإنجازهم وليس بعلاقاتهم الفاسدة ورفع الإعلام الساقط لهم.. ولتكن الأهداف العليا في خدمة الأمة وقيمها ومصالحها العليا التي لا تتعارض والقيم الإنسانية وتعاليم الدين، ولا تخل بالاعتماد المتبادل والثقة المتبادلة بين الأمم والشعوب والدول. انهجوا النهج الحضاري البناء، فقد تخلفنا حتى تلفنا. وقبل ذلك وفي مقدمة ما ينبغي أن نتكاتف جميعًا للقيام به، وعمله بالسرعة الكلية، نحن السوريين الذين لن تحل مشكلاتنا إلا بأيدينا، وقف نزف الدم، ووضع حد لتراكم الحقد والبؤس والاحباط.. إن وقف الحرب المجنونة، وإعادة من تشرد من أبناء الشعب، أولى الأولويات، ولن يحقق ذلك تجار السياسة ولا من يشهرون السلاح بوجه بعضهم بعضًا فيقتلون الشعب والوطن ويتساقون كؤوس الردى ويخسر الشعب والوطن.. والمدخل إلى ذلك أن يقوم العقلاء والحكماء والأوفياء للوطن والأمة والدين، والعارفون بأصول الحكم والفقه والسياسة.. تدعمهم جموع الشعب ممن تضر وتأثر ويتضرر باستمرار الوضع البائس ويتضرر، بوضع اليد على يد كل متطرف ومتسلط، وكل حامل سلاح همه القتل.. لكي نضع حدًّا للفوضى والقتل. ومن ثم العمل على رد كل المظالم بالعدل وتحكيم العدل وترسيخه، ورد كل أمر يحتاج إلى حكم عادل فيه إلى قضاء عادل، ومعالجة الأمور بعيدًا عن الثورات والأحقاد والثارات. وإذا لم نفعل ذلك بمسؤولية وسرعة، فإننا نسهم في وضع الحطب على النار، وفي رمي الناس جماعات وأفرادًا فيها، ليكونوا وقودًا لها.. فنخسر الدنيا والآخرة، ونخسر النفس والروح في الدنيا والآخرة.
والله من وراء القصد.