[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/ahmedalkadedy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د.أحمد القديدي[/author]
” يتفق أغلب الخبراء في العلاقات الدولية على القول بأن معضلات الشرق الأوسط الراهنة والحروب المعلنة والخفية التي تزعزع شعوبه هي مؤشرات خطيرة تهيأنا لمصير مجهول يشمل العالم بأسره انطلاقا من بؤرتين للأزمات الكبرى: المشرق الإسلامي وأوكرانيا. وهذه الظاهرة سماها الوزير الأسبق للخارجية الأميركية (هنري كيسنجر) على قناة (سكاب تي في) ظاهرة ارتباك القوى العظمى التقليدية”
ــــــــــــــــــــــ
وقعت إيران والدول الغربية إتفاقا إطاريا لإنهاء معضلة الملف النووي في مدينة لوزان وتغير تصنيف الجمهورية الإسلامية الايرانية من دولة إرهابية إلى دولة حليفة ورسخت نظرية صعود القوى الإقليمية وتقلص الدور المباشر للقوى العظمى وحين تفتح اليوم أية قناة فضائية ستدرك أن (سيرجي لافروف) وزير خارجية روسيا التحق بمدينة لوزان السويسرية ليتأكد من أن الإتفاق الغربي الإيراني حول الملف النووي لطهران لا يتعارض مع مصالح موسكو وستدرك أيضا بأن رئيس الجمهورية التركية رجب طيب أردوغان قام بزيارة طهران بدعوة من الرئيس حسن روحاني رغم الاختلاف في مواقف الدولتين ولا تنسوا أن الرئيس التركي أعلن الأربعاء الماضي أنه سيزور طهران مهما كانت الاختلافات في تقييم الوضع اليمني وأن الرئيس روحاني هو نفسه الذي ترأس منذ عشر سنوات بداية المفاوضات مع الغرب حول الملف النووي حين كان أمينا عاما لمجلس الأمن القومي الإيراني الذي كان يرأسه خاتمي. كما ستدرك يا قارئي الكريم أن المستنقع اليمني مثل المستنقع السوري حرك التنافس القديم بين واشنطن وموسكو إلا أن العملاق الصيني ظل ظاهريا بعيدا عن هذه الصراعات لكنه يفضل تحريك حلفائه والاعتماد على تغلغله الاقتصادي والتجاري في القارات الخمسة دون تصدر المشهد الدبلوماسي فبيكين هي الغائب الحاضر بفضل مخزونها الأول في العالم من الدولار الأميركي!. نحن نعيش مرحلة جديدة من تشكل العلاقات الدولية في عصر الأزمات الكبرى، مرحلة يمكن أن نسميها مرحلة أفول القوى العملاقة وصعود القوى الإقليمية كلاعبين مؤثرين في تحديد مصير العالم. وطبعا فالفرق كبير بين القوى العملاقة وهي ذات التأثير العالمي والقوى الإقليمية وهي ذات التأثير الإقليمي.
يتفق أغلب الخبراء في العلاقات الدولية على القول بأن معضلات الشرق الأوسط الراهنة والحروب المعلنة والخفية التي تزعزع شعوبه هي مؤشرات خطيرة تهيأنا لمصير مجهول يشمل العالم بأسره انطلاقا من بؤرتين للأزمات الكبرى: المشرق الإسلامي وأوكرانيا. وهذه الظاهرة سماها الوزير الأسبق للخارجية الأميركية (هنري كيسنجر) على قناة (سكاب تي في) ظاهرة ارتباك القوى العظمى التقليدية (أميركا روسيا الصين.. وأوروبا) في مواقفها التي كانت تعتبر ثابتة منذ نهاية الحرب الكونية الثانية إلى سنة 1989 تاريخ انهيار جدار برلين ومعه أمبراطورية الاتحاد السوفيتي. ونفس الظاهرة سماها كاتب افتتاحية (نيويورك تايمز) ( توماس فريدمان) بالارتباك الأميركي أمام خلخلة تحالفاته القديمة فوجدت واشنطن نفسها مضطرة لعقد تحالفات جديدة لأن الدبلوماسية الأميركية اليوم تحاول كبح جماح إيران ومنعها من امتلاك السلاح النووي وهي تعلم أن ذلك الهدف لا بد أن يكون له ثمن! فما هو الثمن المتفق عليه لإنجاز تلك الصفقة ؟ وتسربت من لوزان قبيل التوقيع تصريحات وزير خارجية فرنسا (لوران فابيوس) الذي قال إننا في الربع ساعة الأخير وسنتوصل إلى اتفاق مع إيران يرضي كل الأطراف. أما روسيا فلا تريد اليوم أن يفوتها القطار في هذا الملف فهي تحرص على تقليص حضورها التقليدي (العسكري والسياسي) لتحقق أهدافها من خلال التحرك الإيراني والتحرك السوري في المنطقة بل وحتى محاولة استغلال التردد الأميركي تجاه مصر لجر القاهرة كقطب أساسي في الشرق الأوسط إلى دائرة "المودة" الروسية كما ثبت ذلك من خلال زيارة بوتين للقاهرة منذ شهرين وهو السبب المباشر والأهم لإعلان واشنطن أن إعانة أميركا لمصر لن تنقطع وأن واشنطن ستزود القاهرة بطائرات (أف 16 المتطورة). كل هذا يحدث اليوم بعد أن مرت أزمة النفط بسلبياتها المختلفة على العملاقين وبخاصة روسيا التي كانت نسبة النمو السنوي فيها 7% فتأثر إقتصادها بسبب هبوط أسعار النفط والغاز وبسبب ما فرضه الغرب من عقوبات موجعة على موسكو بتجميد التعامل التجاري والتكنولوجي بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من جهة وبين روسيا من جهة ثانية في ردة فعل قاسية ضد ما يجري في أكرانيا وجزيرة القرم، فروسيا اليوم وبعد استعادة عافيتها العسكرية على أيدي بوتين تطمح إلى استعادة دورها الأمبراطوري القيصري القديم وتقطع مع سياسات (ميخائيل جورباتشيف) ويرى بوتين نفس رؤية القيصر الإسكندر بأن روسيا لا يمكن أن تعيش بدون جورجيا وأوكرانيا! فما بالك اليوم وهاتان الجمهوريتان أصبحتا عضوتين في حلف الناتو وهو أمر جلل يوقظ ستالين من قبره.
أما دول القارة الأوروبية فهي أيضا تعاني من أزمات إقتصادية أصابت بعض أعضاء اتحادها مثل اليونان الذي إختار الناخبون فيه طريق المواجهة مع سلطات وقوانين الإتحاد الأوروبي بانتخاب حكومة متمردة أعلنت العصيان وعدم تسديد الديون المتخلدة في ذمة اليونان والتهديد بمغادرة الإتحاد وعملته الموحدة (اليورو) وكالبرتغال وأسبانيا وحتى إيطاليا وهذه الدول تعاني من مشاكل اقتصادية واجتماعية حادة كما أن فرنسا ليست في مأمن أمين من هذه الهزات ! هذه المعضلات الاقتصادية والاجتماعية أدت إلى مصائب سياسية أيضا بصعود الأحزاب اليمينية المتطرفة إلى دوائر الحكم والإمساك مثلا بثلث مقاعد المجالس المحلية والجهوية في فرنسا في انتخابات مارس الماضي. فالاتحاد الأوروبي بعد ضمه لسبع وعشرين دولة أصبح فعليا تابعا للقرار الأميركي ولم تقنع باريس ولا برلين العالم بأن لهما دورا حاسما ومحوريا في تحديد مسار العلاقات الدولية. بقيت الولايات المتحدة وحدها قوة عظمى لكنها يسرت صعود القوى الإقليمية التي تخدم مصالحها دون التورط هي ذاتها بجيوشها في الحروب حيث تقوم دول حليفة لها بالمهمة في ردع النفوذ الروسي الذي هو بدوره يختبئ وراء قوى إقليمية تؤدي المهمة ببراعة لكن اللعبة الكبرى تبقى بين العملاقين في النهاية. أما التميز الأميركي فيقوم على تعدد مصادر القوة الأميركية فهي ليست فقط عملاقا عسكريا لأنها أدركت منذ عهد رئاسة (دوايت إيزنهاور) سنة 1955 بأن تحديات العالم المعاصر ليست عسكرية بل إن النفوذ الأبقى مع الزمن هو الذي يجمع بين العناصر الأربعة: المال والثقافة والجامعات والثورة الرقمية وقد فسر المفكر الفرنسي (ألن مينك) هذا الخيار في كتابه (روح الأمم) الصادر سنة 2013 قائلا: ليس من الصدفة أن تكون رموز القوة الأميركية اليوم هي (مانهاتن) نفوذ المال و(هوليود) نفوذ الثقافة و (هارفارد) نفوذ الجامعات القوية صانعة النخب في العالم و أخيرا (أبل) رائدة الإبتكارات التكنولوجية والرقمية في العالم بلا منازع.