قبل أربعين سنة خاض لبنان حروب الآخرين على أرضه، فإذا بالآخرين أيضا يخترعون حروبا عربية مشابهة، كأنما هنالك مسلمات بأن المنطقة العربية أرض خصبة لمثل تلك الحروب، وهي أيضا مرتع لطرح مشاريع تقسيمها، حتى كأن الحروب ولدت لهذه الغاية ولن تنتهي إلا بها.
مائتا ألف ماتوا في لبنان، وما زال الآلاف مجهولي المكان إلى اليوم، وعم خراب أبرزه شطب روح المدينة القديمة كما لو أنه ثأر من المكان، والخمس عشرة سنة التي ظلت فيها الحرب على اتقاد، لم تنتج شعبا لبنانيا غير قابل للكسر. قبل وقوع الحرب كان عدد قطع السلاح بيد اللبنانيين مايقارب المائتي ألف قطعة من مختلف العيارات، أما اليوم فهذا العدد تجاوزته أعداد، ومثلما هي اليمن تعوم على بحر من السلاح، فقد يكون لبنان شبيها بها. هي الافتقار للأمان، للإحساس بعدم وجود دولة راعية، فكيف إذا دخلت عوامل الانتماء إلى مذاهب وطوائف.
في ذكراها الأربعين، تغير شرقنا العربي ومغربه، فسوريا التي ضبطت الأمن في لبنان، تعاني من حروب الآخرين على أرضها، وليبيا الشاهدة على ذلك التاريخ أسيرة طوفان الدم، والعراق تعيد ضبط وضعها الداخلي الذي صار ملعبا للآخرين، والمقاومة الفلسطينية التي شاركت في الحرب الأهلية اللبنانية، صارت من الماضي حتى كأن رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس لايريد تذكرها.
عندما نسترجع ذاكرة حرب لبنان، نستشف السبب الذي من أجله زرعت إسرائيل في قلب الوطن العربي، والسبب الأكبر في منع قيام وحدة بين شعوبه، ثم هنالك إبقاء العرب بدون عقول مخترعة ومفكرة فإما قتلهم أو تهجيرهم، وبديلا عن الوحدة مازالت مشاريع التقسيم قائمة، تسبقها فوضى منظمة يمكن السيطرة عليها كما هي حال اليوم. فالعرب بكل المقاييس لايحصدون فقط قدرة الغرب بجناحيه الأوروبي والأميركي على إدخالهم في كيفية نظرتهم إليهم، بل في إضافة الهشاشة العربية التي تحولت إلى مرتع للتآمر عليهم، وإلى ضعفهم البنيوي الذي استولد دائما السيطرة عليهم ، بل هروبهم من دفع المستحق عليهم إزاء أعدائهم، إلى خلق عداوات في مابينهم، وهو ما أدى إلى تلك المأساة المتنقلة داخل الأقطار العربية بحيث أصبح معظم الأقطار تحت سقف الرجاء بالخلاص من أزماته الكارثية التي بعضها لاحل لها داخليا، بل أكثرها كذلك.
كنا نعتقد أن تذكر حرب لبنان سيأتي يوما وسط صفاء عربي ملفت، لكن ماحصل للبنان، وفي توصيف للحال العربية اليوم، قليل من كثيرهم المأساوي. إن الجيل الذي عايش حروب الآخرين على أرض لبنان، مازال يجد الشبه ذاته في الحروب العربية التي أقامت والتي لن يكتب لها النهاية إلا إذا انتزعت منها أيدي هذا الخارج وفواتيره.
في ذكراها الأربعين، وانطلاق رصاصتها الأولى في مثل هذا التاريخ، فإن لبنان لم يقص الحكاية كاملة حول هؤلاء " الآخرين " الذين لايختلفون عن آخرين اليوم عربيا.