تحول النقاش حول ما يجري في اليمن من حوار الى جدال ثم ما لبث أن صار الجدال صراخا؛ ثم اشتعل فصار خصومة. تحول المدونون إلى محللين سياسيين، وتحول بعضهم إلى مؤرخين وبعضهم إلى فقهاء دينيين، واختلط الحابل بالنابل. وتداخلت الملفات الداخلية مع الملفات الخارجية، وشعرت بالغم؛ الأمر الذي كاد أن يضطرني إلى مغادرة المجموعة، لو لا حرصي على البقاء متصلا بهؤلاء الزملاء حتى أرى مآل هذه الداحس والغبراء الافتراضية. بدأ النقاش سياسيا بين اثنين ثم تحول إلى نقاش مذهبي، وبعد ذلك صار طائفيا، حيث جمع الفضاء العنكبوتي ثلاثة متجادلين، يحاول كل منهم أن يستدعي التاريخ لكي يشهد لصالحه وينتصر به على البقية. لقد أجهدنا التاريخ، وأرهقنا الذاكرة، فبدلا من استدعاء المنجزات الحضارية الرائعة لشيوخنا وعلمائنا وفلاسفتنا بثراء طرحهم وفكرهم على اختلاف طرقهم ومناهجهم ومذاهبهم وفرقهم ، إذا بنا نتحارب ونتجادل ونفجر في الخصومة. عندما طالعت كتبي التي جمعتها منذ كنت في المرحلة الإعدادية؛ اكتشفت أن كثيرا منها لعلماء وفقهاء وزهاد من المدرسة الشيعية والإباضية والشافعية والوهابية، وأن تلك الأفكار لم تأخذ في عقلي مطلقا في يوم ما شكلا من أشكال التنافر أو الخصومة، بل شكلت بناء فكريا متنوع المدارك ومستوعبا لطرق تفكير وسلوك إخواني من بقية المذاهب، بل قادني ذلك إلى النظر برؤية أوسع فصرت أبجل كل باحث عن الله على أي مذهب أو دين كان، باعتبار أن ثمرة سلوك الباحثين عن الله يتجسد في المحبة والتسامح والخير والحرص على الوصول الى الحقيقة بصرف النظر عن مصدرها أو من جاء بها، فالحكمة ضالة المؤمن؛ أني وجدها أخذها. أما في ذلك اليوم فقد أمضيته بالكامل أقرأ لثلاثة مدونين يخوضون سجالا عنيفا بافتراضات مسبقة وقناعات متكلسة بأن كل واحد منهم على حق وأن البقية على ضلال. تحسرت أن يكون بيننا من لا يزال يفكر بهذه الطريقة في عالم تتعايش فيه جميع الفلسفات والديانات وتتقارب فيه الآراء والفلسفات لتأخذ شكل الثراء الفكري بدلا من العداوة والخصومة التي تحولت إلى دماء في مجتمعات عربية عديدة.
حدث كل ذلك يوم الجمعة، وكان ينبغي أن يجتهد المسلم في هذا اليوم ليقترب من الله، ويبحث عن ساعة الإجابة يتحراها بالقراءة والتعبد والذكر واستشعار المحبة والرحمة والخشوع والتسامح، لكن للأسف انقضى يوم الجمعة كاملا دون أن يستعيد حوار تلك المجموعة رشده بعد أن بلغ سدا مغلقا نتيجة لتعصب جميع الأطراف الذين نصبوا أنفسهم محامين دفاع عن أطراف الحرب في اليمن. كان بوسع كل طرف أن يحترم الآخر دون أن يذوب أي منهم أو يفقد قناعاته أو يتنازل عن أفكاره. فقط بقليل من الاحترام وتقبل الآخر والتماس الأعذار له، كان يمكن أن تطيب الخواطر ويرقى الحوار الى مستوى النقاش الناضج الراشد.
حاولت أن أنسى الموضوع إلا أن تداعياته طاردتني الى العمل طيلة يوم الأحد؛ عندها اضطررت أن اضع هاتفي على صيغة (الكتم) وأنا أتابع مآل ذلك الجدال البيزنطي لأشخاص يحترفون السياسة وينقدون الكبير والصغير ويحللون المواقف ويصدرون أحكاما كما لو كانوا جهة أبحاث متخصصة أو صانعي قرار تراكمت لديهم معلومات دقيقة عما يجري من حروب وفتن. وكنت أتساءل في نفسي: كم ساعة يعطي هؤلاء لوظائفهم وأعمالهم؟! فمنهم المعلم ومنهم الأكاديمي ومنهم الموظف الإداري ومنهم المحاضر والمدرب، فهم نخبة يستطيعون لو ركزوا اهتمامهم وتفكيرهم في أعمال إبداعية؛ أن ينهضوا بأنفسهم ومجتمعهم ووطنهم بدلا من الوقوع في مستنقع الجدال واللجاجة والاختلاف.

د. أحمد بن علي المعشني
رئيس مركز النجاح للتنمية البشرية