نتحدث في هذه المقالة والمقالات التي تليها في بعض أحكام قانون المعاملات المدنية العماني رقم (29/2013) والتي في اعتقادنا من الأهمية بيان أحكامه نظرا لتطور القواعد التي تحكمها بسبب الظروف الاقتصادية والاجتماعية على السواء، ونظرا لطبيعة هذه الأحكام يكون لزاما علينا مقارنتها بتلك الأحكام الواردة في الأنظمة الوطنية الأخرى...
الأصل أن الارادة هي أساس التصرف، فهي التي تنشئه وهي التي تحدد آثاره وهي التي تنهيه كذلك، ويتم التعبير عن ذلك بمبدأ مشهور هو "مبدأ سلطان الارادة"، والواقع أن مبدأ سلطان الارادة قد أثر في موضوع العقد بأن جعل طرفيه أحرارا في أن يضمنوه ما يشاءون من بنود وشروط تلائمهم وتحقق مصلحتهم، ولهم كذلك الحرية في تحديد الالتزامات والحقوق التي يرتبها هذا العقد، ولا تتقيد حريتهم في هذا الصدد سوى بالنظام العام. ويعرف أثر مبدأ سلطان الارادة على موضوع العقد باسم "حرية التعاقد" أو "الحرية التعاقدية". وبمقتضى حرية مبدأ التعاقد، يكون كل طرف من أطراف العقد الحرية في مناقشة الشروط المدرجة في العقد مع الطرف الآخر سواء عند ابرام العقد أو أثناء تنفيذه. ويعتبر مبدأ حرية التعاقد من المبادئ الثابتة في الأنظمة القانونية الوطنية، حيث تعترف به التشريعات الوطنية كما هو الحال في قانون المعاملات المدنية بيان ذلك أنه بالنسبة لقانون المعاملات المدنية، تنص المادة (167) منه على أن "اذا كان العقد صحيحا لازما فلا يجوز لأحد المتعاقدين فسخه أو تعديله الا بالتراضي أو التقاضي." والعقد الصحيح وفقا للمادة (123) من ذات القانون "هو العقد المشروع بأصله ووصفه، وذلك بأن يكون صادرا من ذي صفة وأهلية مضافا الى محل قابل لحكمه، ومستوفيا شرائط صحته المقررة في القانون، ولم يقترن به شرط مفسد له." والأمر هو ذاته في المادة (147/1) من القانون المدني المصري التي يجري نصها على النحو التالي "العقد شريعة المتعاقدين فلا يجوز نقضه ولا تعديله الا باتفاق الطرفين، أو للأسباب التي يقررها القانون." واذا كانت ارادة الأطراف تلعب دورا مهما في مجال العقود عند اعداد شروط العقد وتنظيم آثاره، فإن مجال المسؤولية والاعفاء منها هو أكبر المجالات التي يعلو فيها مبدأ الحرية التعاقدية. تفسير ذلك أنه يجوز للأطراف الاتفاق على تعديل قواعد المسؤولية العقدية من خلال اتفاقات الإعفاء أو التخفيف من المسؤولية، وذلك في حدود القانون والنظام العام، وذلك من خلال ما يعرف باتفاقات المسؤولية. وتعرف هذه الاتفاقات بأنها تلك التي يقصد بها "تنظيم آثار المسؤولية على غير الوجه التي نظمت عليه في القانون وتقصد تعديل أحكام المسؤولية الناشئة عن الاخلال بالعقد أو المتولدة عن اتيان فعل غير مشروع... والقارئ للأنظمة القانونية الوطنية يجد بعضها أنها تجيز تعديل اتفاقات تعديل المسؤولية وتعتبرها صحيحة سواء بالتخفيف منها أو بالإعفاء منها كليا... مثال على ذلك القانون المدني المصري حيث أن المادة (217/2) منه تجيزها في الحدود التي ترسمها، ويجري نص هذه المادة على النحو التالي "... وكذلك يجوز الاتفاق على اعفاء المدين من أية مسؤولية تترتب على عدم تنفيذ إلتزامه التعاقدي الا ما ينشأ عن غشه أو خطئه الجسيم، ومع ذلك يجوز للمدين أن يشترط عدم مسؤوليته عن الغش أو الخطأ الجسيم الذي يقع من أشخاص يستخدمهم في تنفيذ إلتزامه." وعملا بهذا النص، فإن الاتفاق الذي يعفي المدين من نتائج عدم التنفيذ الراجع الى خطأ يسير منه يعتبر صحيحا، أما الاتفاق الذي يعفيه من نتائج عدم التنفيذ الراجع الى غشه أو خطئه الجسيم، يكون باطلا، بخلاف الاتفاق الذي يعفيه من النتائج المترتبة على الغش والخطأ الجسيم الواقع من تابعي المدين ومستخدميه... وعلى الرغم من خلو قانون المعاملات المدنية العماني من نص عام يقرر صحة هذه الشروط، فإنه يستشف صحتها بمفهوم المخالفة من نص المادة (183) التي تنص على بطلان هذه الشروط في مجال المسؤولية المترتبة على الفعل الضار (المسؤولية التقصيرية) ويجري نص هذه المادة على النحو التالي "يقع باطلا كل شرط يقضي بالإعفاء عن المسؤولية المترتبة عن الفعل الضار." وما دام القانون لم يتضمن مثل هذا النص بالنسبة لشروط الإعفاء من المسؤولية، فتكون الاتفاقات التي تتم بصددها صحيحة... هذه قراء سريعة في مدى صحة إتفاقات تعديل المسؤولية في ضوء مبدأ حرية التعاقد. ولمزيد من الايضاح يمكن للقارئ الرجوع الى قانون المعاملات المدنية العماني،،،

سالم الفليتي
محام ومستشار قانوني
كاتب وباحث في الحوكمة والقوانين التجارية والبحرية
[email protected]