من المفارقات في المشهد العراقي وخاصة في هذا الشهر أنه في الوقت الذي يعيش فيه العراقيون ذكرى سقوط عاصمتهم بغداد بيد الغزاة الأنجلو ـ أميركيين، تحث الحكومة العراقية (حكومة ما بعد الغزو) الخطى إلى البيت الأبيض لتخليص العراق من الغزاة الجدد وبالوكالة طالبةً من الغزاة القدامى تزويد القوات العراقية بالسلاح وبتكثيف التحالف الأميركي الذي شكله قادة البيت الأبيض والبنتاجون ضرباته الجوية ضد الغزاة بالوكالة (الجدد).
إنها مفارقات تحمل من التناقضات ما يتخم حتى بطون الكلاب، ففي مثل هذا الشهر من العام 2003 ساد صمت وترقب انتظارًا لتنفيذ الهدف، أو بالأحرى اكتمال تنفيذ الهدف الأميركي ـ الإسرائيلي وآخرين، الهدف كان ولا يزال تدمير العراق كي يشعر كل طرف من هذه الأطراف أنه نال ثأره من غريمه (الذي هو العراق)، فهل تحقق الهدف؟ ربما ولكن، بأي ثمن؟ ومن الذي دفع معظم الفاتورة؟
اليوم الصمت ذاته يسود محافظات العراق ترقبًا وانتظارًا للخطوات القادمة لتحقيق الهدف المخفي وراء الشعارات الإسلامية للغزاة الجدد (الغزاة بالوكالة)، رغم التقدم اللافت الذي تحققه القوات العراقية في ملاحقة هؤلاء الغزاة، حيث محافظات سقطت وأخرى استعيدت، والمفارقة الصارخة إزاء ذلك هي أنه رغم الحديث الأميركي عن أن علاقة الولايات المتحدة مع العراق هي "علاقة تحالف"، ورغم توقيع الجانبين "الاتفاقية الأمنية" الشهيرة، ورغم مئات المليارات المنهوبة وتدفق النفط العراقي في المصافي الأميركية، بدا الحليف العراقي كمتسول أمام أبواب البيت الأبيض والبنتاجون طالبًا الوفاء بالالتزامات بما نصت عليه الاتفاقية الأمنية أو على الأقل التدليل على مقولة "إن العراق حليف لأميركا"، في حين أخذت الأسلحة والمساعدات العسكرية الأخرى تنهال على إقليم كردستان.
ومن المفارقات الصارخة أيضًا هي أن غزاة الأمس واليوم تركوا العراق أسير مفخخات الحرية والديمقراطية الأميركية، وسواطير الفتن الطائفية والمذهبية والمحاصصة السياسية، فليس هناك صوت يعلو فوق صوت السلاح، وليس ثمة صوت يعلو فوق صوت الطائفية والمذهبية، ومن يتجول في مدن العراق وحواضره وأريافه اليوم ويستطلع آراء العراقيين بعد الصورة المعاد استنساخها اليوم للغزو الأنجلو ـ أميركي من المؤكد أنه سيجد هناك من بينهم من يندم على أيام ما قبل العشرين من مارس عام 2003م وليطرح هذه الحقيقة المؤلمة على العالم الذي استفاق على معركة الحرية وهي تطيح برؤوس ضحاياها، ويستفيق اليوم على "استراتيجية أوباما" وتحالفها لـ"مواجهة" الغزاة بالوكالة المتمثلين في "داعش" وهو يسقط الأسلحة والمواد الغذائية والدوائية لعناصر هذا التنظيم الإرهابي، ويرسم له خطوط سيره على الجغرافيا العراقية والسورية. إلا أنه لم تكن معركة الحرية والديمقراطية واستراتيجية مواجهة "داعش" سوى أفران محرقة.
هذه المحرقة لم تحرم الشعب العراقي وحده من نسيم الحرية، بل حكمت على المنطقة بكاملها أن تقذف في أفرانها، وإذا كان الأميركيون قد دفعوا ثمن غزوهم من دماء راغبي الإقامة في الولايات المتحدة فإنهم اليوم يدفعون هذا الثمن من دماء شعوب المنطقة وفي مقدمتها الشعبان العراقي والسوري، ما لا يدع مجالًا للشك أن المماطلة الأميركية في تزويد العراق بالسلاح وبالإسناد الناري من قبل التحالف الأميركي ستستمر ما دام الغزاة القدامى والجدد وجهين لعملة واحدة وخرجا من رحم واحدة، ولذلك ليس أمام العراق إلا تغيير استراتيجياته وتحالفاته، والمباشرة بالتنسيق مع سوريا وغيرها ممن أصابهم ليس شرر الغزاة فقط بل وقذائفهم ومفخخاتهم.