إعداد ـ أم يوسف :
تعالج السورة أصول العقيدة الإسلامية، وقد تناولت تفصيلا قصة نبي الله نوح ـ عليه السلام ، وفي السورة بيان لسنة الله تعالى في الأمم التي انحرفت عن دعوة الله وعقابه الشديد لهم في الآخرة.
وقد ابتدأت بالحديث عن إرسال الله تعالى لنوح ـ عليه السلام ـ وتكليفه بتبليغ الدعوة وإنذار قومه من عذاب الله تعالى وذكرت جهاد نوح ـ عليه السلام ـ وصبره في سبيل تبليغ الدعوة، وذكّرت قومه بإنعام الله عليهم وعظيم فضائله ليجدّوا في طاعة الله وتحدثت عن تمادي قومه عليه وإهلاك الله تعالى لهم بالطوفان، وختمت بدعاء نوح على قومه بالهلاك لأن قلوبهم لم تلين ولا انتفعوا بالتذكير وهي مكية وآياتها ثمان وعشرون فإلى التفسير مع الجامع لأحكام القران للقرطبي.
قال تعالى:(مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَاراً، وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً* إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً، رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَاراً).
قوله تعالى:(مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا) "ما" صلة مؤكدة ؛ والمعنى من خطاياهم وقال الفراء: المعنى من أجل خطاياهم ؛ فأدت "ما" هذا المعنى. قال: و"ما" تدل على المجازاة. وقراءة أبي عمرو "خَطَايَاهُمْ "على جمع التكسير، الواحدة خطية. وكان الأصل في الجمع خطائي على فعائل ؛ فلما اجتمعت الهمزتان قلبت الثانية ياء، لأن قبلها كسرة ثم استثقلت والجمع ثقيل، وهو معتل مع ذلك ؛ فقلبت الياء ألفا ثم قلبت الهمزة الأولى ياء لخفائها بين الألفين. الباقون "خَطِيئَاتِهِمْ" على جمع السلامة. قال أبو عمرو: قوم كفروا ألف سنة فلم يكن لهم إلا خطيات، يريد أن الخطايا أكثر من الخطيات. وقال قوم: خطايا وخطيات واحد، جمعان مستعملان في الكثرة والقلة، واستدلوا بقوله تعالى:(مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ) وقال الشاعر:
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى
وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
وقرئ (خطيئاتهم) و(خطيّاتِهم) بقلب الهمزة ياء وإدغامها. وعن الجحدري وعمرو بن عبيد والأعمش وأبي حيوة وأشهب العقيلي "خطيئتهم" على التوحيد ، والمراد الشرك. (فَأُدْخِلُوا نَاراً) أي: بعد إغراقهم. قال القشيري: وهذا يدل على عذاب القبر. ومنكروه يقولون: صاروا مستحقين دخول النار، أو عرض عليهم أماكنهم من النار ؛ كما قال تعالى:(النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً)، وقيل: أشاروا إلى ما في الخبر من قوله : "البحر نار في نار"، وروى أبو روق عن الضحاك في قوله تعالى : (أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً) قال: يعني عذبوا بالنار في الدنيا مع الغرق في الدنيا في حالة واحدة ؛ كانوا يغرقون في جانب ويحترقون في الماء من جانب. ذكره الثعلبي قال : أنشدنا أبو القاسم الحبيبي قال أنشدنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن رميح قال أنشدني أبو بكر بن الأنباري:
الخلق مجتمع طورا ومفترق
والحادثات فنون ذات أطوار
لا تعجبن لأضداد إن اجتمعت
فالله يجمع بين الماء والنار
(لَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَاراً) أي: من يدفع عنهم العذاب.
قوله تعالى:(وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً)، (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً) .. في أربع مسائل:
الأولى: دعا عليهم حين يئس من اتباعهم إياه. وقال قتادة: دعا عليهم بعد أن أوحى الله إليه: (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ ..) فأجاب الله دعوته وأغرق أمته ؛ وهذا كقول النبي (صلى الله عليه وسلم):(اللهم منزل الكتاب سريع الحساب وهازم الأحزاب أهزمهم وزلزلهم)، وقيل: سبب دعائه أن رجلا من قومه حمل ولدا صغيرا على كتفه فمر بنوح فقال:(احذر هذا فإنه يضلك)، فقال: يا أبت أنزلني، فأنزله فرماه فشجه، فحينئذ غضب ودعا عليهم. وقال محمد بن كعب ومقاتل والربيع وعطية وابن زيد : إنما قال هذا حينما أخرج الله كل مؤمن من أصلابهم وأرحام نسائهم. وأعقم أرحام النساء وأصلاب الرجال قبل العذاب بسبعين سنة. وقيل: بأربعين. قال قتادة : ولم يكن فيهم صبي وقت العذاب، وقال الحسن وأبو العالية: لو أهلك الله أطفالهم معهم كان عذابا من الله لهم وعدلا فيهم، ولكن الله أهلك أطفالهم وذريتهم بغير عذاب، ثم أهلكهم بالعذاب، بدليل قوله تعالى:(وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ).
الثانية: قال ابن العربي: "دعا نوح على الكافرين أجمعين ، ودعا النبي (صلى الله عليه وسلم) على من تحزب على المؤمنين وألب عليهم. وكان هذا أصلا في الدعاء على الكافرين في الجملة ، فأما كافر معين لم تعلم خاتمته فلا يدعى عليه لأن مآله عندنا مجهول، وربما كان عند الله معلوم الخاتمة بالسعادة. وإنما خص النبي (صلى الله عليه وسلم) بالدعاء عتبة وشيبة وأصحابهما لعلمه بمآلهم وما كشف له من الغطاء عن حالهم. والله أعلم".
الثالثة: قال ابن العربي:"إن قيل لم جعل نوح دعوته على قومه سببا لتوقفه عن طلب الشفاعة للخلق من الله في الآخرة؟ قلنا قال الناس في ذلك وجهان: أحدهما: أن تلك الدعوة نشأت عن غضب وقسوة ؛ والشفاعة تكون عن رضا ورقة ، فخاف أن يعاتب ويقال: دعوت على الكفار بالأمس وتشفع لهم اليوم. الثاني: أنه دعا غضبا بغير نص ولا إذن صريح في ذلك، فخاف الدرك فيه يوم القيامة ؛ كما قال موسى ـ عليه السلام ـ : "إني قتلت نفسا لم أومر بقتلها"، قال: وبهذا أقول".
قلت: وإن كان لم يؤمر بالدعاء نصا فقد قيل له:(أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ) فأعلم عواقبهم فدعا عليهم بالهلاك ؛ كما دعا نبينا (صلى الله عليه وسلم) على شيبة وعتبة ونظرائهم فقال:"اللهم عليك بهم" لما أعلم عواقبهم، وعلى هذا يكون فيه معنى الأم بالدعاء. والله أعلم.
الرابعة: قوله تعالى:(دَيَّاراً إنك تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً) أي: من يسكن الديار، قاله السدي: وأصله ديوار على فيعال من دار يدور، فقلبت الواو ياء وأدغمت إحداهما في الأخرى. مثل القيام، وأصله قيوام. ولو كان فعالا لكان دوارا. وقال القتبي: أصله من الدار ؛ أي نازل بالدار. يقال: ما بالدار ديار، أي: أحد. وقيل: الديار صاحب الدار.
قوله تعالى:(رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَاراً)، وقوله تعالى:(رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ) دعا لنفسه ولوالديه وكانا مؤمنين. وهما: لمك بن متوشلخ وشمخى بنت أنوش، ذكره القشيري والثعلبي. وحكى الماوردي في اسم أمه منجل، وقال سعيد بن جبير: أراد بوالديه أباه وجده. وقرأ سعيد بن جبير (لِوَالِدَيَّ) بكسر الدال على الواحد. قال الكلبي: كان بينه وبين آدم عشرة آباء كلهم مؤمنون. وقال ابن عباس: لم يكفر لنوح والد فيما بينه وبين آدم عليهما السلام. (وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً) أي مسجدي ومصلاي مصليا صدقا بالله. وكان إنما يدخل بيوت الأنبياء من آمن منهم فجعل المسجد سببا للدعاء بالغفرة. وقد قال النبي (صلى الله عليه وسلم):"الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مجلسه الذي صلي فيه ما لم يحدث فيه تقول اللهم اغفر له اللهم أرحمه" الحديث .. وهذا قول ابن عباس: "بيتي" مسجدي، حكاه الثعلبي وقاله الضحاك. وعن ابن عباس أيضا: أي ولمن دخل ديني، فالبيت بمعنى الدين، حكاه القشيري وقاله جويبر. وعن ابن عباس أيضا: يعني صديقي الداخل إلى منزلي، حكاه الماوردي. وقيل: أراد داري. وقيل: سفينتي. (وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) عامة إلى يوم القيامة ؛ قال الضحاك. وقال الكلبي: من أمة محمد (صلى الله عليه وسلم) وقيل: من قومه، والأول أظهر (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ) أي: الكافرين، (إِلاَّ تَبَاراً) إلا هلاكا، فهي عامة في كل كافر ومشرك. وقيل: أراد مشركي قومه. والتبار: الهلاك. وقيل: الخسران، حكاهما السدي. ومنه قوله تعالى:(إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ) وقيل: التبار الدمار، والمعنى واحد. والله أعلم بذلك. وهو الموفق للصواب.

* المصدر: (تفسير القرطبي)