[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/zohair.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]زهير ماجد [/author]
كانت مسرحية دريد لحام " كأسك ياوطن " صرخة انتقادية، ومن الحب يولد الانتقاد، الكره يولد الغضب المدمر .. لأننا نحب الوطن ترانا ننتقد أحيانا تفاصيل، وعندما تطلب التضحية من أجله يكون الشهداء جاهزون.
في كل الاسئلة التي يوجهها التلفاز احيانا الى مواطنين، لا يسأل أحدهم عن انتمائه، اذ لا يجوز هذا السؤال، بل من السخرية ان يكون الانتماء مصدر مساءلة وهو الحقيقة التي لاتناقش. لكن فهم هذا الانتماء يظل عرضة لتعدده، وحسبما يكون الحزب تكون له فلسفته الخاصة، وبدون احزاب هنالك مفاهيم خاصة .. تعدد المفاهيم لا يعني ان هنالك أزمة فهم ، بل حوار داخلي بين المواطن وبين وطنه.
عندما نقول اغنيات وطنية فنحن نحدد هويتها مسبقا .. آلاف منها موجودة في كل اذاعة وتلفاز وحتى في البيوت .. لايمكن لكلمات هذا النوع من الغناء الا ان يكون مطابقا للاحساس الشعبي، وعليه تبنى الاحاسيس الفردية.
محمد عبد الوهاب مثلا يقول بأن " حب الوطن فرض علي"، يلاقيه الشاعر احمد شوقي في وطنياته حين يقول " وطني لو شغلت بالخلد عنه / نازعتني اليه بالخلد نفسي " .. فنجد سعيد عقل في شآمياته " يؤكد " شآم ياذا السيف لم يغب / ياكلام المجد في الكتب / قبلك التاريخ في ظلمة / بعدك استولى على الشهب " .. كل يمسك بخيوط مواطنيته، يراها في دقائقها فيرسم ابعادها كلاما واحساسا، ولهذا يصبح الوطن مزيجا صعبا من الاحساس ومن التملك ومن خلية التربة التي نما فيها المرء وترعرع .. لبنان مثلا اكثر الدول التي هاجر ابناؤه، الجيل الذي ترك وطنه ظل احساسه عنيف الانتماء، لكن ما أن صار له اولاد في الغربة حتى رأينا وطنهم ماعاشوه وليس ماتخيلوه من كلام الآباء والاجداد. ولن نذهب بعيدا، فقد احصيت اعداد الخادمات اللواتي يعملن في البيوت وقد جئن من بلاد فقيرة ومعدمة، ومع ذلك رفض اكثرهن تقبل الواقع الجديد بكل تقدمه وغناه، وكثير منهن هربن في البداية ومنهن من عاد الى بلده. لاعلاقة للمواطنية بالفقر او بالغنى، بل بتلك الجمل السحرية من الاحاسيس المتداخلة بعنف في الشخص.
والوطن ليس مساحة، يتربى المواطن في بيت لايعرف في البداية موقعه، ومن خلال اهله ورفاقه ومدرسته يبدأ التعرف على اسم المكان، يكفيه ذلك للتحقق بأنه ابن مكان قبل ان يكون له مساحة اكبر .. في مرحلة من العمر يتأسس اسم الوطن فيتم استبدال المكان به، ومع ذلك، يظل المنزل الاول قيمة لا تضاهى كما يقول المتنبي " لك يامنازل في القلوب منازل " . او ان خير الحنين لأول منزل.
لذلك يكون الوطن بمساحة ليبيا مثلا( مليونا كيلومتر مربع ) او بمساحة لبنان ( عشرة آلاف كيلومتر مربع) فرق شاسع بين المساحتين، ومع هذا بالنسبة لليبي وطن، وبالنسبة للبناني وطن ايضا، لكن الحس اللبناني يذهب بعيدا ليجسد المساحة الصغيرة في شعر يجعل المساحة بحجم العالم كما يقول الرحابنة في احدى اغنيات فيروز " وطني ياجبل الغيم الازرق / وطني ياقمر الندى والزنبق / يابيوت البيحبونا / ياتراب اللي سبقونا / يازغير ووسع الدني ياوطني " .. اما في الجغرافيا عموما، فقد يصبح الوطن قارة مثل الولايات المتحدة الاميركية، او يصبح مانعرف به العالم العربي بأنه الوطن العربي نظرا للمشتركات بين اقطاره، واحيانا يكون ترقيعا مثلما هي عليه الوحدة الاوروبية التي لم تصل بعد الى مصاف ان تكون وطنا بل هي مجمع اوطان متباعدة.
الوطن اذن مثل حلم مندى يهوم افكارا على صاحبه فيجعله أسيرا له، كلنا اسرى مكان واحد في العالم نحمل خلاياه وبصماته، نمسك بجواز سفره، بهويته وباخرى ذات صفات .. يفرحنا ان تكون لنا هوية مثلا، تصوروا مثلا حال امريء اضاع هويته كيف ستكون مشاعره .. يمكن له بدل عن ضائع، لكنه مع ذلك يتحسر.
مهما كتبنا في الوطن فنحن لا نصل الى لب التعبير عن كنهه .. كلمة عربي مثلا هوية متسعة لها مساحة بحجم كبير نتطلع الى حقيقتها ونأسى ان لاتكون مساحتنا الوطنية .. عندما يلتقي عربيان في الغربة ينشدهما فرح داخلي ان التقيا ، يسأل الاول عن بلد الثاني فيقول له مصري مثلا، فيعرف الثاني عن انه مغربي على سبيل المثال او عماني، ثمة شعور بالقربة بين الاثنين، ثمة واسطة لهذا التقارب اسمها اللغة، احيانا تصبح اللغة وطنا كما هو الحال بين العرب في الغربة، تماما مثل بعض مشاهد الغربة التي تربط المواطن بوطنه الاصلي كقول الشاعر اللبناني المغترب وهو يرى الابيض امامه: ياثلج قد هيجت اشجاني / ذكرتني اهلي بلبنان " ..
اما القيمة الاسمى التي لا تعادلها قيمة لعلاقة الانسان بوطنه ، فنجدها في ساحات القتال، في الدفاع عن وطنه، في الاستبسال من اجله .. ثمة حكايات كتبت من ارض المعركة برهنت عن حس عنيف يشعر به المقاتل المتمسك بأرضه، ذلك الاحساس بالعظمة وهو يمسك ببندقيته ليمنع غازيا او محتلا، او ليهاجم من احتل ارضه. تسنى لي ان استمع الى مشاعر من هذا النوع ، سمعت كلاما مشتركا مؤداه ان الحالة الوطنية تتلبس المقاتل المدافع او المهاجم، هنالك سحر يشعر به وهو يقترب من عدو، كلمة عدو ثقيلة على نفسه ولا يمكن تقبلها .. في ملخصات الجيش الاحمر الروسي اثناء دفاعهم عن بلادهم ضد النازي خلال الحرب العالمية الثانية كثير من المشاعر الدقيقة حول هذه المسألة، في بعض القصص التي كتبها جنود عراقيون على الجبهة خلال حربهم مع ايران مايحمل معاني القداسة الوطنية، ولعل الايراني ايضا لديه المشاعر ذاتها واكثر .. في احدى اغنيات عبد الحليم حافظ التي عنونت " فدائي " رصد شعوري لحالة مقاتل، تقول الاغنية في مطلعها : " فدائي ، اهدي العروبة دمائي / واموت أعيش / مايهمنيش / وكفاية شوف علم العروبة باقي " .. الى ان يقول " ان مت ياأمي ماتبكيش / رح موت علشان بلدي تعيش / افرحي يما وزفيني / وفي يوم النصر افتكريني / وان طالت يما السنين / خلي اخواتي الصغيرين / يكونوا زي فدائيين".
اذا ذهبنا باتجاه احساس المواطن الفلسطيني سنجد اعنفه لكنه مبهم .. كان ابان الثورة حالة، وفي هدأة السكون الحالي حالة أخرى .. صحيح ان فلسطين تعيش في داخل كل فلسطيني، في الوقت الذي يعيش كل مواطن في وطن له، الا ان هذه الحالة انتجت ادبا عظيما وشعرا مهما وحالة شعور لها ذاتيتها التي لا يتشارك فيها مع احد. فالفلسطيني لايحمل هوية فلسطينية وان كان مؤخرا حمل بطاقة عنوانها السلطة الفلسطينية .. لم تزل فلسطين التي مات من اجلها الالاف ومازالوا مغزولة في العقل الفلسطيني لم تتحول بعد الى واقع، ألم الفلسطيني هو أشد آلام الشعوب لأنه محاصر في الكلمات وفي المعاني وفي الافكار وفي الاناشيد ، محتلة ارضه من قبل عدو يراه يوميا وهو يستمتع بخيرات بلاده ويتنشق هواءها ويشرب ماءها ويعيش رغد العيش ويقتل كل من يقترب من مساحتها، بل يرتكب الجرائم في غزة وفوق كل ارض فلسطينية، يخلع ابواب البيوت ليعتقل ، يدمر منازل، يقتلع اشجارا مثمرة معمرة كشجر الزيتون الذي عمره آلاف السنين. اليوم غابت الاغنية التي جسدت حالة ثورية، تلك الاغنية التي لعبت دورا في الحماس الوطني وفي تجليات الحب الفلسطيني، كانت دافعا قويا لمن يسمعها ان يلتحق على الفور بالثورة، ولهذا غيبوها، كي لايكون لها تأثير نفسي على الشعب حاليا. اذكر مثلا بعض كلمات الاغاني تلك اذ تقول احداها " انا حالف يمين الله عن اعدائي مابرجع / فدائي مابكلمهم بغير النار والمدفع / يااما برفع الراية / يااما في الوطن اصرع / على جسمي على هامي جموع الشعب رح ترفع / رايات النصر والتحرير في ارضي بعز النصر". او تلك الاغنية الهادرة التي تقول " انا صامد وان هدموا بيتي يابيتي في ظل حجارك انا صامد" ، لم يكن هنالك سوى تلك اللوحات المجبولة بالشهادة والدم والموت والتحرير، استقت تلك الاغنية معانيها من قلب المفهوم الذي من اجله يقاتل. ومن المفيد ان نعرف ان النشيد الوطني الفلسطيني اليوم اغنية " فدائي " التي حولها الى بلادي بكل اسف مسؤولو السلطة الذين يهربون حتى من كلمة فدائي.
وماذا عن يومنا العربي الصعب حيث مشهد الآلام المتكرر، كانما هنالك حالة ولادة معقدة وصعبة .. مايتعرض له بعض الاقطار العربية مؤلم ومصيري .. انها ايام المعنى الوطني الحقيقي والترجمة الفعلية لعلاقة المواطن بوطنه. احصاء بسيط لشهداء الدفاع عن الاوطان ضد هجمة البرابرة تعطينا الرقم الذي يتجاوز المليون واكثر .. في كل قطر عربي سؤال كبير يجيب عنه ابن الارض بدمه. يتساقط الشهداء امام بعضهم، فلا يعدم الآخرون تكملة الطريق حتى النهاية تحت شعار " اما الموت او النصر " .. ولاشك ان هنالك بطولات اختفت وسط ضجيج المعارك لكن سيأتي اليوم الذي يعاد فيه قص الحكايات عن تلك المرحلة المصيرية من حياة اوطاننا. لاشك ان كثيرا من ضباط او جنود سوريا الابطال كتبوا اثناء راحتهم مشاعرهم وهم في وجه العدو وعلى الجبهة الساخنة وبين الموت والموت. لاشك ان الوطن كان الحاضر الاكبر، كان الصورة الوحيدة، وان كانت صور الاهل والابناء تتوالد في الخاطر وهو منطق طبيعي لمقاتل متجذر في بنية اجتماعية عريقة.
انه الوطن اذن، معنى الانتماء وقدسيته .. انه مطرح الروح، وفيه غلاوتها .. وهو ذاك الفيض من الشعور الذي يعطي للانسان قيمة كبرى. هو ليس تلة او بحرا او شارعا او منزلا جميلا او حديقة غناء او نهرا تهدر ماؤه، او سماء زرقاء وغيره من المشاهد التي تتشارك فيها اوطان، لكنه فوق هذا وذاك احساس معقد لايحتاج للكثير وصفه، موجود فينا نترجمه بالعلاقة بيننا وبينه في كل حالاته وتلك التي يحتاجها.