المفتي العام للسلطنة:
الزواج الشرعي نظامُ أمرَ اللهُ سبحانه وتعالى بالمحافظةِ عليه لِما فيه من تكريمِ للإنسانِ

ـــ الصداقُ هو حقٌّ للمرأةِ المتزوّجةِ وحدها، وليسَ حقّاً لوليِّها، ولا لأيِّ أحدٍ من أقربائِها

ــ الطمعَ يُردِي في نارِ جهنّمَ كما يؤدي إلى العارِ في هذه الحياةِ الدنيا

إعداد ـ احمد بن سعيد الجرداني:
ها نحن أخي الكريم أختي الكريمة .. لا زلنا نواصل في بحر المعرفة ونستلهم الدروس والعبر من خلال خطب ألقاها سماحة الشيخ العلامة أحمد بن حمد الخليلي المفتي العام للسلطنة منذ اعوام مضت فمع الموضوع ..
يقول سماحة الشيخ حول موضوع تيسير الزواج قائلاً: إن حكمةَ اللهِ سبحانه وتعالى اقتضتْ أن يكونَ ميلُ كلِّ واحدٍ من الجنسين الذكرِ والأنثى إلى الجنسِ الآخرِ ميلاً غريزيّاً قويّاً عميقاً، لِما في ذلك من بقاءِ الجنس واستمرارِه، وما في ذلك من امتدادِ النسْلِ الذي جعلَه اللهُ سبحانه وتعالى امتداداً للنوعِ نفسِه.
وقد ميّزَ اللهُ سبحانه وتعالى الإنسانَ بأنْ جعلَ اللقاءَ بين جنسيه الذكرِ والأنثى في إطارِ نظامٍ يستمدُّ قدسيتَه من شرعِ اللهِ سبحانه وتعالى، ذلكم النظامُ هو الزواجُ الشرعيُّ الذي امتنَّ اللهُ سبحانه وتعالىبه على عبادِه حيثُ قالَ : (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم ـ 21)، وقالَ عزَّ مِن قائل): يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍوَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء) (النساء ـ 1)، وهذا النظامُ أمرَ اللهُ سبحانه وتعالى بالمحافظةِ عليه ؛ لِما فيه من تكريمِ هذا الإنسانِ ، ورفْعِ قدْرِه ، وإعلاءِ شأنِه، حتى لا يكونَ شأنُه شأنَ البهيمةِ العجماءِ التي ينزو ذكَرُها على أنثاها من دونِ محافظةٍ على أيِّ نظامٍ ،فالإنسانُ الذي جعلَه اللهُ سبحانه خليفةً في الأرضِ ، وحمّلَه ما حمّلَه من الأمانةِ ؛ جديرٌ بأن تختلفَ حالتُه عن حالةِ البهائمِ العجماءِ ، وقد جعلَ اللهُ سبحانه وتعالى مِن مزايا هذا النظامِ حفْظَ الأنسابِ وصلةَ القراباتِ، ذلك لأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ جعلَ حياةَ الإنسانِ في هذه الأرضِ حياةً مدنيّةً اجتماعيّةً، ومِن أعظَمِ أواصرِ هذه الحياةِ أواصرُ القربى، ومن أعظَمِ الرِّباطِ بينها ما يكونُ بين الآباءِ والأمّهاتِ من ناحيةٍ، وبين الأبناءِ والبناتِ من ناحيةٍ أخرى ،ذلكم الرابطُ الذي يستمرُّ حتى تكونَ الأجيالُ المتلاحقةُ حلقاتٍ في سلسلةٍ واحدةٍ، وبهذا يكونُ كلُّ إنسانٍ امتداداً لآبائِه الماضين وأسلافِه الغابرين.
تيسير المحافظة على الزواج
وأكد سماحته في خطبته بقوله: وقد أمرَ اللهُ سبحانه وتعالى بتيسيرِ المحافظةِ على هذا النظامِ، كما نجدُ ذلك واضحاً في قولِه): وانكحوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ( (النور ـ 32) ، وحثَّ عليه الرسولُ (صلى الله عليه وسلم)، فقدْ قالَ (عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ): (يا معشرَ الشبابِ، مَن استطاعَ منكم الباءةَ فليتزوّجْ ، ومَن لم يستطعْ فعليه بالصومِ ؛فإنّه له وجاءٌ)، وانظروا كيفَ أمرَ الرسولُ (صلى الله عليه وسلم) بالزواجِ أوّلاً، ثم أمرَ بالصيامِ ثانياً إذا ما تعذّرَ الزِّواجُ ؛ لأجلِ حفْظِ العفّةِ والشرفِ والكرامةِ، في هذا ما يدلُّ دلالةً واضحةً على أنَّ الزواجَ ينبغي أن يحرصَ عليه كلُّ إنسانٍ، والرسولُ ـ عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ ـاشتدَّ غضبُه على الذين أرادوا أن يتبتّلوا من صحابتِه ، وأخبرَهم بأنَّ من سنّتِهـ عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ ـ إتيانَ النساءِ، ثمَّ قالَ بعدَ ذلكَ (صلى الله عليه وسلم):(ومَن رغبَ عن سنّتي فليسَ منّي)، هكذا يأمرُنا الإسلامُ بالمحافظةِ على هذا النظامِ وتيسيرِه وعدَمِ التفريطِ فيه.
* الصداق من شروط صحة النكاح
وقال سماحته: وقد جعلَ اللهُ سبحانه وتعالى هذا النظامَ يتمُّ في إطارِ كثيرٍ من الأحكامِ، مِن بينها الصداقُ الذي فرضَه اللهُ تعالى للنساءِ على أزواجِهنَّ حيثُ قالَ:) وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً) (النساء ـ 4) ، وفي حديثِ رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) ما يدلُّ على أنَّ هذا الصداقَ هو شرطٌ من شروطِ صحةِ النكاحِ ، فقدَ قالَ ـ عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ ـ: (لا نكاحَ إلا بوليٍّ وصداقٍ وبيّنةٍ)، هذا الصداقُ هو حقٌّ للمرأةِ المتزوّجةِ وحدها ، وليسَ حقّاً لوليِّها ، ولا لأيِّ أحدٍ من أقربائِها ، وهو شيءٌ يتوقّفُ عليه صحةُ النكاحِ، ولا اعتبارَ بكثرتِه وقِلّتِه، فالرسولُ ـ عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ ـ قالَ لأحدٍ من الناسِ أرادَ أن يزوِّجَه: (التمسْ ولو خاتماً من حديدٍ)، فكلُّ ما يُملَكُ ويمكنُ الانتفاعُ به يجوزُ أن يكونَ صداقاً للمرأةِ، وليستْ كثرةُ صداقِ المرأةِ دليلاً على قيمتِها، بل بالعكسِ، فالرسولُ (صلى الله عليه وسلم) يقولُ :(أكثرُهنَّ بركةً أيسرُهنَّ مهراً)، ولو كانَ صداقُ المرأةِ هو رمزُ قيمتِها لكانت بناتُ الرسولِ (صلى الله عليه وسلم) أولى بأن تكونَ صدُقاتُهنَّ أكثرَ الصدُقاتِ، وقد كان صدُقاتُ بناتِ الرسولِ (صلى الله عليه وسلم) أيسرَ الصدُقاتِ، كما كانت صدقاتُ أزواجِه ـ عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ ـ أيضاً أيسرَ الصدقاتِ، أمَا في هذا ما يكفي العاقلَ دليلاً على أنَّ صداقَ المرأةِ ليس هو رمزاً لقيمتِها؟! إنّما قيمتُها العفّةُ والطهارةُ وتقوى اللهِ سبحانه وتعالى، وقد أمرَ الرسولُ ـ عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ ـ بتزويجِ العفيفِ، فقد قالَ:)إذا جاءَكم مَن ترضَون دينَه وخُلُقَه فزوِّجوه(، ثمَّ قالَ بعد ذلك) :إنْ لم تفعلوا تكنْ فتنةٌ في الأرضِ وفسادٌ كبيرٌ).
واللهُ سبحانه وتعالى بيّنَ في كتابِه العزيزِ وجوبَ المسارعةِ إلى انكاح المرأةِ ، حيثُ قال: (فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) (البقرة ـ 232) ، فليسَ للوليِّ أن يعضلَ وليّتَه عن الزواجِ، بل عليه أن يسارعَ إلى تزويجِها ، وأن يجعلَ صداقَها من أبسطِ الصدقاتِ حتى يتمَّ تزويجُها في أيسرِ وقتٍ، وما المغالاةُ في مهورِ النساءِ إلا سببٌ من أسبابِ عرقلةِ الزواجِ، وهو إمّا أن ينشأَ عن الترفِ الذي انتشرَ في الأرضِ، وسادَ بين الناسِ، وإمّا أن يكونَ ناشئاً عن جشَعِ الآباءِ الماليِّ، مع أنَّ الآباءَ ليس لهم أيُّ حقٍّ في صدقاتِ بناتِهم، فاللهُ تعالى قالَ:) وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ((النساء ـ 4)، ولم يقلْ وآتوا آباءَ النساءِ، أو آتوا أولياءَ النساءِ صدقاتِهن، بل أمرَ أن تؤتى النساءُ صدقاتِهن، ومن ساقطِ المروءاتِ أن يحرصَ الأبُ على المالِ من خلالِ تزويجِه لكريمتِه، فإنَّ ذلك شيءٌ تأباه المروءةُ، ويأباه الشرفُ، فضلاً عن الدينِ الحنيفِ ، فيجبُ على الآباءِ أن يرتدِعوا عن هذا الجشَعِ الذي امتلكَ نفوسَهم، والذي كان سبباً لانتشارِ الفسـادِ في الأرضِ.
* الطمعَ يُردِي في نارِ جهنّمَ
ودعا سماحة الشيخ الحضور إلى تقوى الله تعالى حيث قال: اتقوا اللهَ في أنفسِكم ، واتقوا اللهَ في أولادِكم، واعملوا بما أمرَكم اللهُ سبحانه وتعالى به، وانتهُوا عمّا نهاكم اللهُ تعالى عنه، واعلموا أنّكم محاسبون على أنفسِكم، ومحاسبون على أولادِكم ، ومحاسبون على ذويكم، فإنَّ اللهَ تعالى يقولُ: (قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) (التحريم ـ 6)، فاتقوا اللهَ في أنفسِكم، واتقوا اللهَ في الذين جعلَهم تحت أيديكم ،وأحسِنوا سياسةَ أمورِهم، وإيّاكم والطمعَ؛ فإنَّ الطمعَ يُردِي في نارِ جهنّمَ ،كما يؤدي إلى العارِ في هذه الحياةِ الدنيا، واعلموا أنَّ ما فرضَه اللهُ سبحانهوتعالى من الصدقاتِ للنساءِ إنّما هو حقٌّ جعلَه اللهُ سبحانه وتعالى للتمييزِ بين النكاحِ والسِّفاحِ، ولا يتوقّفُ ذلك على المغالاةِ، بل إنَّ المغالاةَ منالمحجوراتِ ، وقد همَّ أميرُ المؤمنين عمرُ بنُ الخطابِ ـ رضيَ اللهُ تعالى عنه ـ أن يحدّدَ صدقاتِ النساءِ في وقتِه، معَ أنَّ الصدقاتِ في ذلك الوقتِ لم تكنْ بلغتْ ما بلغتْ إليه الآنَ من المغالاةِ، فاتقوا اللهَ، وأحسِنوا أحوالَكم يُحسِنِ اللهُ سبحانه وتعالى عاقبتَكم.