[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/aliaklahersan.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]علي عقلة عرسان[/author]
يوم الأحد في التاسع من شهر شباط/ فبراير 2014 فقدت صديقاً شاعراً، جنوبي الهوى والمنبت، شآمي البيئة، قوميًّا ووطنيًّا بامتياز، وله ملامح تجد ما يشابهها في وجوه من يتحلون بروح الصديقين.. كان يشرف على البحر الأبيض المتوسط من داره العالية ويتنور العالم وما يحب منه باستشراف مبدع، ومن موقع ممتع، معشب ومزدهر ويفيض عليه من سحره فيفيض بدوره سحراً حتى لأراه في سحر الجنوب، جنوب لبنان، وكان يغني من هناك للحب والوطن والمقاومة والحرب.. ويكتب شعراً بالفصحى المزدهية بأهلها والمزدهي بها أهلُها، فيبدع، ويكتب بالمحكية اللبنانية فيجيد، ويبقى على صلة بالموسيقا ورحابة الفن من خلال صلته الحميمة بالرحابنة، وغنت له فيروز فيما غنت، فبقي ما كان من كلماته ولحن الرحابن وصوت فيروز ما سيبقى.. صديقي الشاعر الذي ركب الريح وسافر إلى بلد مَجهَلٍ لا ندري عنه شيئاً ولم يعد منه أبداً من سافر إليه، هو الشاعر جوزيف حرب. لم يترك لي صديقي العزيز كلمة وداع، ولم يخبرني حتى عن نيته الرحيل، ولم أعتب عليه ولا شعرت بأنه أخل بشيء من شروط الصحبة، فنحن في بلاد الشام هذه الأيام، ولا سيما في سوريا العزيزة ومن يراها جوهرة بلاد الشام، وهو واحد من أولئك، نرحل فجأة ومن دون وداع، ولا يعرف الواحد منا متى سيكون فوق صهوة الريح بجسمه كاملاً على وضع الجثة أو نتفاً منه تعلق بذلك الحصان الذي لا يشق له غبار.. وحين يدعونا الداعي لا ندري هل انتقلنا قبل أن نسمع أم أننا سمعنا ونحن ننتقل، فقد حكم علينا أن ننظر إلى الجثث والجراح وتملأ حلوقنا الغصص ونتابع دمارنا ونحن على نارنا، بينما يتلهى بنا أمراء الفوضى وتجار الحرب والسياسة ومرتزقة " الثورات" والإعلام، ومن لا تعني لهم حياة البشر إلا فرصاً يستثمرونها ومشاريع يخططون لها..؟! وشأن صديقي جوزيف الذي أحب الشام شأن كل من يدعوه الداعي الأكبر فلا يتردد ولا يحير جواباً ولا يتلفت حوله، ولا يستطيع أن ينظر إلى أهله وأصدقائه وفي عينيه أمل بقدرتهم على استنقاذه من دعوة هي حَينه، وقد لا يملك حتى أن يقول كلمة وداع.
لقد امتطى صديقي جوزيف صهوة الريح، ومضى ومعه من نيران الشعر ما يقض المضجع ويمض الروح، على الرغم من أن الشعر ربيع الروح، والروح حياة، والأمل يجدد نور نفوسنا ودروبنا في الحياة من خلال الإبداع إلا أن الأمل اليوم يدخل في ثنايا غيم كثيف يظل أرضاً بينه وبينها ضباب فوق ضباب، لا تكاد ترى أصبعك حين ترفعها أمام عينيك لشدة العتمة وغم الظلمة..
"الأمل له وجوه باسمة كثيرة." كما يقول الشاعر الصيني بيين تشو ـ لين." والشعراء الصينيون كثيراً ما يشبهون استقامة الإنسان وإباءه بعطر زهر البرقوق، وكثيراً ما ينشدون للحب والحياة، ولكنهم مثلنا أيضاً يغرقون في بؤس الحرب والقهر حين تشن عليهم الحروب أو تدلهم عليهم الخطوب.. فطينة الناس واحدة ولكن الماء من أنهار عدة وبينه الحلو والمر وما يسجرك بالملح الأجاج.. وإلى صديقي وبلدي المدمى ومن تلتهمهم نار الكلمات فلا يجدون من وقدها خلاصاً أكتب اليوم عن الشعر والحرب، فصديقي شاعر ونحن في داهية الحرب التي لا تشفع لنا معها لا جنيف ولا أخواتها، وليس لنا منجى على ما يبدو مما نحن فيه هول وداء ومقت وقتل ودهاء بشر هم الرياء والوباء، إلا على أيدينا نحن، حين نصدق نحن، وحين تصدق منا النوايا، وندوِّر الزوايا، وتطيب منا القلوب، وندخل الميدان الأخوي ـ الإنساني من بابه الضيق ليتسع بنا إذ نرى بعيون الأطفال الخائفين الجائعين، والعجزة المرضى، والنساء المنهكات من كثرة من تحملن وعانين ورأين، والمرضى والمحاصرين سواء أولئك الذين نراهم اليوم يخرجون من أحياء حمص القديمة بين رصاصة وهبَّة فزع، أو أولئك الذين ينتظرون الخلاص، أو من لا يتاح لهم حتى الأمل في أن يخرجوا من دائرة الموت، رغم الاستغاثات والفزع والهلع، لأن مناجل الموت تحصد رقابهم بسرعة الانفجار الضخم والقذيفة التي تهوي بجاذبية شديدة على الرؤوس التي تظن أن بعض العمار سيقيها التفتت والدمار؟! نحن في هول المحنة ياصديقي.. يا أصدقائي.. فلا تؤاخذونا إن غبنا عن تشييع هذا العزيز أو ذاك، أو إذا طرنا معه أو قبله لنذهب إلى حيث لا ندري فحُسبنا مع الغائبين دون أن يدري بمصيرنا الأقربون، فلم يعد بيدنا من أمرنا شيء، ويبقى لنا أن نتلهى بالشعر وسواه بين خوف وخوف، جوع وجع، قهر وقهر.. وفي عيوننا ما يشي باحتقار لكل من يجعل الشأن الإنساني عرضة للاحتقار.
لم يتح لي يا صديقي جوزيف أن أعود إلى شعرك أقرأ وأقبس قبساً من ناره أو أن أقطف وردة من حوضك يزهو باخضراره، فالوقت موت، والقهر غلاب، والنفس تعاف ذاتها، والغربة حاجب وحجاب.. فلتسمح لي أن أتكلم عن الشعر والحرب، فأنت الشاعر وأنت " حرب" على من يجعل الحياة دار حرب لا يستقر فيها الإنسان على غصن إبداع، أو نفحة صدق في عرزال أمن، أو لمحة جمال يشف عنها أو يرف بها جناحان من نور ترتاح بنسائمهما قلوب وتنار دياجبر دروب، ويُصدَع الظلم بنور الإبداع ووهج الشعر فيهتز عرشه وتبتهج لاهتزاز عرشه أنفس تغشَّاها ولا يزال.
الشعر عواطف وانفعالات ومشاعر ومواقف يقدمها الإبداع في صيغ فنية تحقق مقومات الفن الشعري وقيمه وتقدم رؤية الإنسان وبعض حلمه.. وهو يختمر في القلب قبل أن يطفر على اللسان، والقلب يسمع ويبصر ويهتدي ويشع بالنور أو بالحب وقد يعميه الحقد ويعشش فيه الشر وتثمر فيه الكراهية.. إنه دارة عامرة تدور فيها الدوائر من كل لون.. وإذا كان القلب مهتدياً فإنه يفيض على العقل بالمحبة والحكمة، وقد تكون الحكمة ويكون التعقل والحرص على القيم عموداً فقريًّا لشعر كثير كما هي الحال في أشعار مشاهير مثل هوميروس وسوفوكليس وشكسبير وزهير بن أبي سلمى والمتنبي ونظيره الصيني المسلم لي باو والمعري وطاغور.
في بعض الحالات تفعل اللغة بالشاعر فعل الريح في المركب الشراعي فتزوْبِع الكلام كما تزوبع الموج وتقود الشاعر إلى التهيام في أودية كثيرة تجره إليها شهوةُ الكلام والتفاعلُ مع جماليات ومشهديات ينجذب إليها الخيال أو يغري بها التخييل، فتفتح الباب أمام رؤى مستقبلية يصوغها الشاعر وعوالم خالية من الحقد والقتل والبؤس يجترحها قلمه الذي هو مطية خياله.. إنها في وجدان الشاعر وفي نسيج الكلام ولكنها قد لا تصل بوضوح ودقة وتأثير إلى من يتبادلون الرصاص عبر المتاريس أو من يصنعون السياسة من مواقع التعاسة الروحية وعمى القلوب وبؤس المقاصد، ويخوضون الحرب تجارة بالدم البريء، ويجرون الناس إلى الويلات نتيجة أطماع أو أحقاد أو تسلط وشهوات، أو لتحقيق مصالح والمحافظة عليها، أو لإشباع نزوع شرير كامن في تكوينهم النفسي والروحي والأيديولوجي، أو لإرواء نزوع إلى الشهرة ودخول التاريخ حتى لو كان ذلك الدخول من باب العار والسباحة في الدم البشري والتوغل في الجرائم والكوارث والدمار، كما هي الحال مع رؤساء وزعماء وهواة سياسة ومتنطعون لرئاسة، هم في تكوينهم قاصرون أو مرضى أو فاشلون من حيث التفكير والتدبير، لا يعرفون للسلام والحرية والديمقراطية والحقوق إلا توظيفاً مصلحيًّا حيث يستخدمونها كما البضائع تماماً ويستثمرونها ويعطونها معاني تدر عليه أرباحاً من تجارة بالسلاح والنفط والدم، إنهم يستخدمونها ستاراً لغايات ومدخلاً لاستراتيجيات عدوانية، ونماذجهم كثر ويكفي أن نشير إلى أسهم في عصرنا الرئيس الأميركي جورج بوش ذي النزوع الصليبي المقيت الذي دمر العراق وبدأ الفتنة، ذام الذي تأخذه العزة بالإثم كلما أوغل في الجريمة والدم ولا يتوقف عند حد ولا يرى إنسانية في الإنسان بل يراه بضاعة وأداة وعدواً إذا لم يكن من طينته وعلى شاكلته.
في كثير من الحالات يزيّن أشخاص قادة وشعراء وغيرهم، يزينون لأقوام حالاً تأتي بها الحرب، وحين يدخلون الحرب يدخلونها على أمل أن أزمتها بأيديهم ويخوضونها وفق برامجهم، يوقفونها متى شاءوا ويسيرون بها في الطريق التي يرسمون، ويرون أنها سوف تكون لمصلحتهم ولن تدوم إلى الحد الذي يجعلهم يستسلمون لمنطقها ويستغرقون فيها!؟.. هكذا تزيّن النفس مسارات لذاتها، والنفس أمارة بالسوء، وهكذا يزيّن قادة وحكام وزعماء وشعراء لشعوبهم الحرب، ويضعون في كفها النصر ومفاتيح السلم عندما يقررون خوضها والدفع باتجاهها.. ولكن.. من يستطيع أن يتحكم بكل شيء، ومن يزعم أنه وحده الذي يقرر، لا سيما عندما تتداخل الأمور وتصطرع الإرادات وتغيب العقول ومعها الحكمة، ويصبح الرصاص لغة المتخاصمين، ويدخل ميدان العراك أقوياء يتحالفون ويتقاتلون وتأخذهم العزة بالإثم ويغريهم الدم باستنزاف الدم.؟!.
كل بطولة يرفعها الشعر هي نتيجة حرب أو مقدمة حرب ومقترنة على نحو ما بالقوة والدم، أي أنها خروج على مقولات السلام وشروطه ومناخه؟ فهل هذا النوع من الشعر مدان لأنه لم يصنع من العنف والدم والموت حريراً ينام عليه الأطفال في عوالم تخيّلية يسود فيها العقل ويحكمها الحكماء ويسوسها الحكم الرشيد!؟
حين نتأمل في إنتاج شعري كثير في عصور وأماكن متعددة نجد أنه يثير نوازع الخير والشر، فشعر الهجاء والمديح والفخر والذم الذي يشيد بنصر وبطولة ومكرُمة ويذم هزيمة وجبناً وخسة وبخلاً، في مواقف أو مواجهات أو حروب، يسجل نتائج أفعال وأحداث أكثرها متصل بالحرب والسلم ونتائجهما؟ فالشعر فعَّال في هذه المجالات ويستثير الهمم والأشخاص والأقوام. وما أعرفه من شعر شعراء مثل الأخطل والفرزدق وجرير في النقائض، والشعر المرتبط بأيام العرب وحروبها، ومنه شعر عنترة بن شداد؟ هو فخر ومدح وهجو مرتبط بالحدث، وشعر هوميروس في الإلياذة كان سجل أحداث وبطولات مكتوبة بالدم والمعاناة حول طروادة وفي مسيرات الغزو ورد الغزو.. وقريب من ذلك في الأغراض شعر فرجيل الشاعر اللاتيني في الإنيادة؟ أليست هذه ملاحم حرب؟ حين يصنع الشعر بطلاً أو يمجد فتكاً ويسجل انتصار قوة بمباركة لتلك القوة أو حين يسوِّغ القتل ويرفعه إلى مرتبة البطولة، فإنه يؤسس لمعايير وقيم وقواعد اجتماعية تجعل الإقبال على القتال رجولة، والفتك بطولة، والنصر المضرّج بالدم غاية المجد وإكليل الغار على جبين المحاربين.. وكأنما يستظل ذلك بمظلة قول من قال:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفّة فلعلّةٍ لا يظلم
من الذي صنع مأساة طروادة ومعاناة بريام وهيكوبا وبطولة هكتور وأغاممنون وأخيل.. أليس الشعر؟ فلولا الكلام لغاب كل شيء في ثنايا غبار التاريخ وللفّه النسيان تماماً.. ويبدو الأمر كما قال أبو تمام الطائي:
وَلَولا خِلالٌ سَنَّها الشِعرُ ما دَرى بُغاةُ النَدى مِن أَينَ تُؤتى المَكارِمُ
وقد سن الشعر مدح الفتك في الحرب، وأعلى لسان السيف والرمح ومن ثم كل سلاح.
لا يمكنك أن تنظر إلى أرض معركة ومخلفاتها وتبقى مالكاً احتراماً للبشر الذين يتساقون الموت.. ولا بد من أن تقف لتسأل: لماذا الحرب، لماذا القتل، لماذا الدمار؟ وهل الشعر الذي يمجد الأبطال وهم من يبلون بلاء حسناً في الحروب، وتكون نتائج بطولاتهم تلك أموات أو جرحى، هو الذي يتسبب في ذلك والمسؤول عنه؟! هل كان فكتور هيغو سعيداً إلى حدود النشوة الإنسانية في قصيدته " واترلو" أمام الجثث والجرحى وصور الدمار والمعاناة، أم تراه كان يرى الجثث بعين أخرى لا تمت إلى الإنسانية بصلة، ويرى أبطاله وانتصاراتهم فقط من ثقب وطنية يضيق ولم ير الإنسانة المنتهكة!؟ وهل المتنبي كان كذلك في حروب سيف الدولة وغيره من شعراء ملاحم الحروب العربية وأيام العرب؟! إنك تسأل وفيك قبول هنا ورفض هناك وإقبال على هذا وصد عن ذاك.. وحين تغيب عنك تلك المشاهد التي تسجل البؤس الإنساني وعجز العقل والسياسة عن الرؤية الإنسانية، وتلاحقك الأحداث والصور والذكريات والمعاناة التي تجعل إنساناً ينسى عقله والبؤس الذي رآه والمعاناة القاسية التي مر بها ويندفع نحو الحربة والبندقية والقذيفة العمياء لينال الحرية، ويتحول إلى كتلة عنف تتدحرج في الشوارع والحقول سعياً وراء العدالة، حينذاك يحق لك أن تدهش وتسأل لماذا الظلم، لماذا القهر، لماذا العدوان، لماذا الطغيان والاستبداد والاستلاب وانتهاك الحريات والحرمات وكرامة الإنسان، ولماذا يكون الإنسان على هذه الصورة الكريهة، أو يصبر على حالٍ الموت أفضل منها.؟
لا يمكن تجريد الحرب من دوافع قد تكون صحيحة وصحيّة، فحرب ضد العنصرية والاحتلال والصهيونية والإمبريالية والفاشية والطغيان لها ما يسوّغها ويدخلها في إطار إحقاق الحق وترسيخ العدل والمحافظة على السلم، يلجأ إليها الإنسان مضطراً { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } البقرة: ٢١٦ . وسلم يستتب بالقوة أو يفرَض بها ويخفي ظلماً وقهراً ويرسخ نتائج عدوان ليس سلماً وإنما هو تأسيس لعدم الاستقرار، وإثارة لبؤر التوتر، وتهيئة النفوس والظروف لحرب ترفع القهر وتقيم العدل وتصلح ما اختل من أمر السياسة والناس في الحياة. وكما قال شاعرنا العربي:
رُبَّ سِلمٍ جَنَت مِن الشَر ما لَم تَجنهِ الحَربُ حينَ دارَت رَحاها
فسلم الحرب العالمية الأولى مثلاً أسس للحرب العالمية الثانية أو إلى " سلام ما بعده سلام"، وسلم المنتصرين في الحرب العالمية الثانية لم يرسخ سلاماً لأنه ليس سلم العادلين، وحين سيطر أولئك المنتصرون فيها على مقاليد الأمور في العالم ورسموا من مواقع القوة خريطته المسيطَر عليها في الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، أسسوا لمظالم واستقطابات دولية وبؤر توتر وهيمنة من نوع ما، وقادوا العالم إلى حرب باردة وساخنة، وهي حروب محدودة أو صغيرة ولكنها بمجملها خلفت الكثير من الضحايا والدمار، وما زالت مستمرة وسوف تستمر ما لم يتم إصلاح.
لن يصنع الشعر يوتوبيا السلام فالصراع سوف يستمر بالنار أو بالكلام. وكم فجَّر الشعرُ في النفوس أحقاداً وصنع بطولات وحرض على الاحتراب، وكم هلل للسلم ودعا لها وألهم أرواحاً هداها فسارت في طريق الخير ودعت للسلم وصنعته.
إن الشعر سجل البطولات، وكل البطولات المتضادة في المواجهات والحروب عزيزة على فئات من الناس، فلا يوجد مقاتل مدان من جميع الناس إلا ما ندر.. والنادر لا يشكل قاعدة في التاريخ. ولا يخلو علَم بلد من إشارة إلى الدم والتضحيات: لون أحمر أو نجمة أو نجوم أو ما شابه ذلك يشير إلى الدم. الموت من أجل الحق بطولة والقتل من أجل النصر بطولة والشعر يخدم الاثنين ويرسخهما. وعلى ذلك يمكننا القول إن الأبطال صناعة حرب وصناعة شعر.. ومن يريد أن يكون بطلاً من أبطال قومه فالطريق إلى البطولة طريق حرب وقوة ودم وكلام يمجد ذلك ويحرض عليه.
مكروه عندي شعر يشعل الحرب ويؤرث الحقد ويرسخ الكراهية ويثير الضغائن، وأنموذج من ذلك ما يثيره دانتي الليغييري في الكوميديا الإلهية من ضغائن وأحقاد في نفوس المسلمين وضدهم حين يسيء بشعره للرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم، ومكروه عندي من ينسج على هذا المنوال في أي فن.
ومكروه عندي عالم تُكتب فيه مدائح الأبطال بدماء الناس، وشعر يفيض حرارة من دم يتحول كلاماً، ومكروه عندي ظلم يجبر الناس على اللجوء إلى العنف وتمجيد الظالم، وقوة غاشمة تفرض على الناس الخروج لمواجهتها بالسيف.
لا أشك أبداً في قدرة الكلمة، وإذا ما اقترنت الكلمة بصفاء الروح وقوة العقل وسلامة القيم وصحة النفس البشرية فإنها تنتج من القول ما يردع الشر وينمي الخير ويلجم القوة العمياء ويوقف العنف المدمّر.
إن السلم مآل كل حرب ولكن لا يدوم سلم بين الناس، الحرب لن تنتهي من تاريخ البشر والسلم لن يستقر إلى الأبد.. هذه المتوالية الجدلية حرب وسلم، سلم وحرب، مرتبطة بالحياة والأحياء، بجدلية الخير والشر، وأظن أنها سوف تستمر.. فمنذ هابيل وقابيل يستمر الصراع بين الخير والشر، الشر والشر، وحتى بين الخير والخير وفق مفاهيم متعارضة أو أساليب متضادة للوصول إلى الغاية. ومن يدّعون أنهم الخيرون قد يجرون على البشرية فوق ما يجره الأشرار من ويلات.
الحياة حركة والحركة تحمل التغيير، والحياة صراع من أجل البقاء ومن أجل التغيير، وهي صراع ديَكة في كثير من الأحيان ولكنها تغصّ بدم الصراعات ودمويتها في حالات كثيرة.
هكذا الحياة.. هكذا قانون العيش في الغابة وفي المجتمع المدني المتحضر الذي أصبح في عصرنا غابة.. جمّلوه.. وضعوا من القوانين والأنظمة لفائف قطن سميكة بين جلود القنافذ المتزاحمة، ولكنكم ستجدون أن الصراع مستمر بين الأحياء وأنه دموي بما لا يُطاق ولا يسوَّغ ولا يقبَل.
من يكره السلام من بني البشر يا ترى، ومن يحب الحرب من العارفين بشرورها ومآسيها؟ لا أحد.. لا أحد.. ولكن كل " أحد" تقريباً يجد نفسه في لحظة ما مسوقاً إلى العراك وفي خضم دوامة الصدام والعنف والحقد.. أما الحرب الباردة بين الأفراد والفئات والقوى والدول فهي الماء اليومي للحياة سواء أكانت حرب نفوذ أو مصالح أو أيديولوجيا أو من صنف الحروب الدينية والقبلية والعرقية.. وذاك ضرب من استمرار القتال بوسائل متعددة.
إن تلازم الضدين: الحرب والسلم، مصحوب في كل وقت بالكلمة التي يجود بها اللسان، واللسان في أدائه المبدع أو غير المبدع يقدم شيئاً لا يمكن أن يذهب سدى، إنه يذكي الخير أو يذكي الشر.. تلك حال اللسان في كل زمان ومكان..
إننا في شعر الحرب أو الشعر من أجل السلام نقطف ثمار اللسان، واللسان جواد المرء في كل معترك وموقف، وسقطاته قاتلة أحياناً. باب السلم والمودة والحب والوئام تفتحه أحياناً كلمات وباب الحرب أيضاً.. ولكن حين نتكلم عن الشعر فنحن أمام وهج النار والنور، الحر والقر، الربيع والخريف، الموت والحياة، الحب والكره.. إننا في ميدان الحياة الذي ترمح فيه الكلمة المكثفة المصمَّمَة بطريقة فاعلة، حيث تقود خلفها عقولاً وقلوباً وسواعد وتحرك أسلحة وأدوات.. كل أنواع الأسلحة والأدوات.
تبدأ الحرب صغيرة ولكنها تتمرد في أحوال على إرادة السلم ومن يطلبها.. هكذا رآها شاعرنا العربي القديم الحكيم زهير بن أبي سلمى الذي وصف هذا المدخل فأجاد حين قال:
وَما الحَربُ إِلّا ما عَلِمتُم وَذُقتُمُ وَما هُوَ عَنها بِالحَديثِ المُرَجَّمِ
مَتى تَبعَثوها تَبعَثوها ذَميمَةً وَتَضرَ إِذا ضَرَّيتُموها فَتَضرَمِ
فَتَعرُكُّمُ عَركَ الرَحى بِثِفالِها وَتَلقَح كِشافاً ثُمَّ تَحمِل فَتُتئِمِ
فَتُنتَج لَكُم غِلمانَ أَشأَمَ كُلُّهُم كَأَحمَرِ عادٍ ثُمَّ تُرضِع فَتَفطِمِ
فَتُغلِل لَكُم ما لا تُغِلُّ لِأَهلِها قُرىً بِالعِراقِ مِن قَفيزٍ وَدِرهَمِ
أما الشاعر عمرو بن معدي كرب الزَّبيدي فقد وصفها وكرَّهَها إلينا بقوله:
الحربُ أوّلٌ ما تكونُ فُتيَّةً تسعى بزينتها لكلِّ جَهولِ
حتى إذا استَعَرَت وشَبَّ ضِرامُها عادت عجوزاً غيرَ ذاتِ خليلِ
شمطاءَ جَزَّت رأسَها وتَنَكَّرَت مكروهةً للشَّمِّ والتقبيلِ
لك الرحمة يا صديقي جوزيف حرب، وعذراً منك، ويشفع لدي عند روحك ظني أنك على الرغم من محبتك لشعرك والشعر، لا تضيق بالحديث عن الشعر في زمن الحرب.