” في بداية الصراع المسلح في سوريا، وقبل ظهور داعش وإقامتها "دولة الخلافة" في أجزاء من سوريا والعراق، كان رهان القوى الغربية والإقليمية على الائتلاف الوطني وذراعه العسكري الجيش الحر. وتغيرت قيادات الائتلاف أكثر من مرة، مع اكتشاف الجهات الممولة والمساعدة أن الإخوان يهيمنون عليه (حتى لو لم تكن شخصيات الواجهة إخوانية). ”
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أثار تقدم ميليشيات جبهة النصرة، ومعها عدد من الجماعات المسلحة الرافعة لراية الإسلام، في ريف إدلب ونحو ريف حماة موجة من التحليلات والتعليقات حول الصراع في سوريا اتسمت في أغلبها بحديث "مرحلة جديدة" و"تحول نوعي واستراتيجي" وما شابه من مصطلحات المحللين والمعلقين المحدثين. ولعل الحدث الأبرز، الذي حظي بترويج غير مسبوق من مواقع الإخوان وحساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي، وبلعته وسائل إعلام تقليدية يفترض أنها رصينة هو سيطرة النصرة وأحرار الشام على بلدة جسر الشغور. وبدأت وسائل الإعلام التي تؤيد ما يسمى "المعارضة السورية المسلحة" في الحديث بتوسع عن بداية انهيار الجيش السوري وقرب سقوط اللاذقية، عاصمة الساحل السوري. وتلمس نبرة "الفرح" في كل تلك الكتابات والتحليلات والتعليقات والتي تصل أحيانا إلى حد "التهليل".
صحيح أن الجيش السوري يتراجع في الأسابيع الأخيرة لأسباب عديدة، يظل أهمها هو "إعادة تأهيل فرع تنظيم القاعدة في سوريا (جبهة النصرة) لتقود المعارضة المسلحة". ويبدو أن القوى الغربية قبلت بموقف قوى اقليمية ترى أن الحل لمواجهة توسع تنظيم "داعش" في سوريا هو فصل النصرة عنه ودعمها وتمويلها. وتدفق السلاح عبر تركيا على النصرة، التي انضمت إليها فصائل مسلحة أخرى تحتاج دوما لأن تكون في الجانب الذي يصله التمويل الأفضل، وأعادت تنظيم صفوفها لتقوم بعمليات بارزة من درعا جنوبا إلى الحدود الشمالية الغربية مرورا بمحيط دمشق. ويمكن للعواصم العربية التي روجت لمحاولة "شرعنة الإرهاب" بإعادة تأهيل النصرة مقابل الاستمرار في "شيطنة" داعش أن تشعر بالغبطة لأن جهودها أثمرت مزيدا من تدمير سوريا وتقديمها أنقاضا لتجار الحروب من الانتهازيين المتسربلين بالدين.
لا يمكن إغفال رمزية سيطرة النصرة على جسر الشغور، التي كانت شعلة "انتفاضة الإخوان" مطلع ثمانينات القرن الماضي وسحقها نظام الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد. لم يغب ذلك عن من قاموا بذلك، وربما حتى من ساندوا ومولوا، وكان طبيعيا احتفاء الإخوان ووسائل إعلامهم بالحدث. فها هم الإخوان، الذين خسروا في مصر وجزئيا في تونس وتضعضع وضعهم في الأردن، يتقدمون في سوريا ويراهنون على اليمن. ويتعزز توجه مغلوط يتبناه الغرب، بقيادة أنغلو/ساكسونية، أساسه ان الحرب على الإرهاب تتطلب دعم ما يوصف بأنه "الإسلام السياسي المعتدل" (أي الإخوان، وجماعاتهم) لمواجهة "الإسلام المتشدد والمتطرف" (أي القاعدة وداعش وأمثالها). ونقول التوجه المغلوط لأن الكل ـ وفي مقدمتهم الغرب ـ يعلم ان كل تلك الجماعات خرجت من عباءة الإخوان وأن آفة المنطقة هي بالأساس استغلال الدين في السياسة. لكن القوى الكبرى لا يهمها الإصابة بعلة طالما أن ذلك يسهم في تحقيق مصلحة، أما القوى المحلية فهي للأسف أسيرة تصورات طائفية ومذهبية ضيقة ـ وأحيانا تنافس شخصي لا يتسق مع حسابات مصالح الدول والشعوب.
في بداية الصراع المسلح في سوريا، وقبل ظهور داعش وإقامتها "دولة الخلافة" في أجزاء من سوريا والعراق، كان رهان القوى الغربية والإقليمية على الائتلاف الوطني وذراعه العسكري الجيش الحر. وتغيرت قيادات الائتلاف أكثر من مرة، مع اكتشاف الجهات الممولة والمساعدة أن الإخوان يهيمنون عليه (حتى لو لم تكن شخصيات الواجهة إخوانية). وأصيب الائتلاف بالترهل وتراجع أثر الجيش الحر مع بروز داعش وغيرها من الجماعات المرتبطة بالقاعدة، وأيضا مع ما أصاب إخوان مصر من انتكاسة (وهم في النهاية قيادة الإخوان في المنطقة ونواتها الصلبة التي تؤثر أي شقوق فيها في بقية توابع التنظيم في المنطقة والعالم). وكأنما هي موجة مرت، وندخل مرحلة موجة أخرى يعود فيها الإخوان بشكل ربما اكثر شراسة من ذي قبل ـ خاصة وأنهم يجدون دعما ممن يعملون، بقصد أو بسوء تقدير، على شرعنة الإرهاب.
ولمن يسعون في سياق صراع اقليمي مفهوم ولا يمكن تجاوزه إلى اسقاط النظام في سوريا على اعتبار أن ذلك سيعني احراز نقطة ضد النفوذ الإيراني نقول إن تحقيق هذا الهدف سيتضمن تدمير سوريا ولن تكون إيران مضارة منه أكثر من السوريين والعرب أجمعين. كما أن ذلك لن يفيد سوى الإخوان، الذين تبيح لهم انتهازيتهم الرقص على جثث الموتى فرحا بتجارة الأنقاض لدى خراب البلاد. هذا ما يفعلونه في ليبيا، ويأملون أن يفعلوه في اليمن ويحاولون فعله في مصر وتونس وغيرها. ثم أن هناك مثالا فجا على سوء التقدير فيما يتعلق بالصراع مع إيران وهو ما جرى للعراق، الذي كان تدميره فائدة مشتركة لإيران والإرهابيين على السواء. ولم يخسر أكثر من المعسكر الموصوف بالمعتدل، الذي تفترض عقلانيته ورشده. ورجاء دعونا من المقولة الممجوجة بأن إيران وإسرائيل هما الأحرص على بقاء النظام السوري، وأن دعم جماعات الإرهاب والإخوان لإسقاطه إنما يصب في مصلحة العرب على حساب أعدائهم (إسرائيل وإيران). فالواقع ان طهران وتل أبيب لا يهمهم في حسابات مصالحهم شكل النظام ولا أشخاصه، بقدر ما يهمهم إنفاذ خططهم وضمان أن يكسبوا على المدى الطويل. وهو ما نحققه لهما ـ للأسف ـ بشرعنة الإرهاب وتمكين الإخوان، الآن في سوريا وغدا في ليبيا والله أعلم أين بعد.

د.أحمد مصطفى
كاتب وصحفي مصري