الحمـد لله رب العـالمـين، والصـلاة والسلام عـلى سـيـد الخـلـق أجـمعـين، وعـلى آلـه وصحـبه ومن تـبعـهـم بإحـسان إلى يـوم الـدين وبعــد:
فـما مـعـنى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ ..) (الإسراء ـ 70)، إنـه لا شـك أن التكـريم الـذي ذكـره الله تعـالى في قـوله: (أول التكـريـم يـرجـع إلى تكـريـم الله لأبـيـنا آدم عـليه السلام، أي جـعــل أصله كـريما، كـرمنا بني آدم بخـلـق آدم، وذلـك بنسبة الخـلـق إلـيه سبحانه وتعـالى في قـوله:(فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ، إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ، قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ، قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ، قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ، وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ) (ص 73 ـ 78).
لـقـد أغـرته نفـسه فـقال أنا خـير منـه، لأنـك خـلـقـتـه مـن طـين وخـلـقـتني مـن الـنار، وعـنـصر النار أفـضل مـن عـنـصر الـطـين، وما عـلـم أن المعـنـصر هـو الـذي يجـعــل الطـين أفـضـل مـن النار، فالمادة لا تعـطـي الأفـضـلـية لنـفـسها ما لـم تـكـن مـن الخـالـق البارئ المصـور الله سـبحانه وتعالى.
ونحـن لا نعـلم يقـينا الفـرق بين خـلـق الله الشيء بيـده، وبين أن يقـول له كـن فـيكـون، وإنما يسـتـفـاد من هـذا، إنـه تكـريـم عـظـيـم لآدم، وتفـضيـل كـبير، قال العـلـماء: كأن الله خـلـق آدم ـ عـليه السـلام ـ عـلى غـير الكـيفـية الـتي خـلـق الله عـليها سـائـر المخـلـوقات، حـيـث قال الله تبارك وتعـالى:(إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(يس ـ 82).
أما الـدخـول في الـتفـصيـل والتأويـل: كـيـف يقـول الله للشيء كـن، فـيكـون وهـو معـدوم؟، وكـيـف يقـول في شيء آخـر خـلـقـت بيـدي؟، فإن هـذا لا يجـوز الـدخـول فـيه، لأننا لا يمكـن أن نقـف عـلى حـقـيـقة ذلك، وهـذا الـقـول فـيه تكـلف، وقـول بغـير عـلـم، وهـو من الخـوض الـذي يـؤدي إلى الإشـراك بالله، ولأن معـرفـة ذلك لا يـزيـد في إيـمان المـؤمن شيئا، لأن هـنالك أشياء اسـتأثـر الله بـعـلـمها، ولا يصـل عـلم البـشر إلى كنهها مطـلـقا، فـيجـب عـلينا التسلـيم والـوقـوف عـلى ما أخـبر الله به، والإيمان به، إذ الـتـكـذيـب به شـرك، والخـوض فـيه مما يـؤدي إلى الـشرك، ويقـول العـلـماء: (الـعـجـز عـن إدراكه إدراك، والخـوض في إدراكه إشـراك).
والقـول الفـصـل في ذلك وحسـب، قال الله تعالى:(مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا) (الكـهـف ـ 51).
والـتـعـبير جاء بلفـظ المفـرد (لما خلـقـت بيـدي) لم يـقـل خـلقـنا، فـفـيه ضـرب من الاختصاص، وضمير العـظـمة يكـون في بعـض المقامات أولى، وفي بعـضها ضـمير الإفـراد يكـون هـو الأولى، كـما في قـوله تعـالى: (لما خـلـقـت بيـدي) والتعـبير بالأيـدي مقـصـود مجانسة لإلـف البـشـر، لأنهـم لا يــزاولـون أعـمالهـم إلا بأيـديهـم خاصة الـدقـيقة منها، إما طـريـقة الخـلـق والكـيـفـية فـهـذا مما اسـتأثر الله بعـلـمه، ولا مطـمع لأحـد في إدراكه، فـلا يحـيطـون بشيء مـن عـلمه إلا بما شـاء .
أولها: هـذه الإضافة في قـوله تعـالى: (لما خـلـقـت بيـدي).
ثانيها: سـجـود المـلائكة مـع تقـدمهـم في الخـلـق وكـونهـم خـلـقـوا مـن نـور، وقـد سـبـقـوا في العـبادة عـلى بني آدم، بما لا يـعـلم إلا الله ذلـك مـن آلاف السنين أو مـلايين السـنـين، ثـم إن سـجـودهـم لآدم ـ عـليه السـلام ـ كان قـبـل أن يـسـجـد آدم لـربه، فــلـو أن آدم قـضى مـدة في الـتـعـبـد لله، ثـم أمر الله مـلائكته بالسجـود له ، لـكان فـيه بعـض الاسـتـحـقـاق، ولـكـن المـلائكة أمروا بالسجـود لآدم مباشـرة بعـد خـلـقه من طـين، ونفـخ الـروح فـيه من قـبـل أن يعـبـد الله أو يـسـجـد لله أو يسبح الله أو يصلي لله.
ثالثها: طـرد إبليـس من رحـمة الله من أجـل تكـبـره وامتناعه عـن السجـود لآدم، وقـد كان قـبـل ذلـك عـابـداً، يسبح الله ويـذكـره، ولكـنه لما عـصى ربه بعـدم السجـود لآدم طـاعـة لله سـبحانه وتعالى، كان ذلـك سببا لحـرمانه مـن رحـمة الله ، وشـقـاوته واسـتحـقـاقـه اللعـنة إلى يـوم الـدين.
هـذا كله تـشريـف لآدم، وتكـريم لبنيه من بعـده، ويـدخـل ذلك في مجـمـوع قـوله تعـالى:(وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ ..)، وأول ما يـذكـر بالطـبع في تكـريـم بني آدم، تكـريـم أبيهـم آدم ـ عـليه السلام ـ الـذي هـو جـدهـم وأصلهـم الأول.
ولـقـد كـرم الله تعالى بني آدم بأمـور لا تعـد ولا تحصى: فـأول التكـريم خـلـقـهـم عـلى هـذه الصورة البـديـعـة، التي قال الله تعالى فـيها:(خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (الـتغـابن ـ 3).
ولا يـوجـد عـلى ظهـر البسيطة مما اطـلع عـليه البـشر أجـمـل صـورة مـن بني آدم، مـن اعـتـدال الـقـامة والـرأس إلى أعـلى، والأرجـل إلى الأسـفـل، والحـواس متجـمعة في الـرأس، بهـذه الصـورة البـديعـة، التي لا تـوجـد في أي مخـلـوق عـلى ظـهـر الأرض، ولا نعـلم ما في السماء، وقـد اطـلع البـشر عـلى آلاف الآلاف من المخـلـوقات، ولا يــزالـون يكـتـشفـون، فهـل وجـد الإنسان شـيئا أجـمل منه صـورة ؟ لا ، لا وجـود لهـذا مطـلـقـا.
قـد يسـتـلـذ الإنسان منـظـرا من المناظـر فـيقـول: ما أجـمـل هـذا العـصفـور مثـلا أو ما أجـمـل هـذا الغـزال، أو ما أجـمـل هـذه الـدابة، أو ما أجـمـل هـذا الفـرس، ولكـن إذا قـيـس بصـورة الإنسان جـملة وتفـصيـلا فإنه لا يـوجـد شيء أحـسن مـن صـورة بني آدم، وهـذا كـلام الله تـبارك وتعالى الـذي خـلـق الخـلـق:(أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك ـ 14).
قال:(فأحسن صوركم)، وجـعـل صوركم عـلى أجـمـل وأحسـن ما تكـون بهـذا الاعـتـدال الـذي لا تـكاد تعـد فـوائـده ومنافـعه، ومن الكـرامة أن يكـون الإنسان مـرفـوع الـرأس، والله تعالى ضـرب مثـلا للضال والمهـتـدي، بصورة الإنسان والحـيـوان فـقال تعالى:(أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الملـك ـ 22).
ولـو أن بعـض الحـيـوانات، تظـهـر وجـوهها مستـقـبلة ومتجهة إلى الأمام لـكـن ذواتها مكبـوبـة، فـذوات الأربع كلها مكـبـوبة والـزواحـف ليـس فـيها كـلام وحتى التي تمشي عـلى رجـلـين، ليست قامتها مستقـيمة ومعـتـدلة كالإنسان، فهـناك فـرق كـبير لا تـكاد تكـون بينهـما مقـارنة، وليـس الـمراد بالتكـريم جـمال المنـظـر وإنما المراد بالتكـريم المعـنـوي.

ناصر بن محمد الزيدي
.. وللحديث بقية.