[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedaldaamy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]أ.د. محمد الدعمي[/author]
لا ينبغي للمرء أن يسمح لنفسه بأن يدعو إلى أو يفكر بــ"ثقافة نخبوية"، ذلك أن في هذا اختلالًا ينطوي على مناقض لفكرة "إشاعة الثقافة" أو "دمقرطة الثقافة" كي تكون متاحة للجميع. هذا هو هدف المجتمعات كافة، بل وهدف الإنسانية عامة. إلا أن ما يحدث في عالمينا العربي والإسلامي يضطر المرء إلى اللوذ بما يمكن أن يطلق عليه تعبير "النخبة الثقافية"، ليس لأنه يؤمن بمفهوم "أرستقراطية الثقافة"، أو بـ"الثقافة الأرستقراطية"، وإنما بسبب أن شيوع الجهل والأمية، مع ملحقاتهما كالعصبية والطائفية والضغائن، قد أدى إلى عملية فرز ثقافي، يشبه إلى حد بعيد عملية فرز الزبدة من الحليب. راح المثقفون يطفون على سطوح مجتمعاتهم التي تنهشها أمراض الجهل والأمية، حتى اضطر المثقفون للانكماش على أنفسهم كما تنغلق القوقعة فجأة لتمنع المتطفلين من مطاولة جوهرها اللؤلؤي.
إن أية عملية مسح شمولي شامل لتضاريس الثقافة العربية والإسلامية اليوم يمكن أن تميط اللثام عن تبلور نخب ثقافية تستحق الحماية والرعاية، ليس على سبيل حجرها وفصلها عن مهاداتها الاجتماعية الواسعة، ولكن على سبيل إتاحة البيئة الموائمة لها كي تبدع وتنتج وتبتكر وتضطلع بوظائفها الاجتماعية دون السماح لقوى الرجوع الإمساك بتلابيبها من أجل إغراقها في مستنقع اللاثقافة الضحل.
إن "النخبة الثقافية" في عالمنا العربي اليوم إنما هي حقيقة واقعة، وإن عملية التعامي عن وجودها، بدعوى ديمقراطية الثقافة، لا تزيد عن إنكار ضوء الشمس في نهار صيفي ساخن. لا تستطيع النخب الثقافية أن تضطلع بأدوارها التنويرية البناءة في دواخل المجتمعات دون أن تحظى بالرعاية والتكريم من قبل أولي الأمر، إن كانوا حريصين على تحسين مستويات شعوبهم علميًّا وحضاريًّا. بهذه الرعاية يمكن لأولي الأمر أن يتيحوا للنخب الثقافية قنوات التواصل والتفاعل مع كتل الحشد العام الذي، بطبيعة الحال، يحسن الظن بالثقافة والمثقفين، فيستقبلهم بكل كرم وبسخاء عرفان الجميل، كما يتعلق الطالب النجيب بمعلمه، احترامًا وتقديرًا ومحبة.
لا ينبغي السماح للمؤسسات الأكاديمية بناء جدران عالية تفصلها عن المجتمعات التي حرصت على تأسيس تلك المؤسسات ودفعت من مدخولاتها القومية لرعايتها وتواصل عملها. لذا فإن إشاعة الثقافة تتطلب أولًا دفع الأقسام الجامعية المتخصصة نحو كتل الجمهور على سبيل تمكين التفاعل، وتوسيع مديات الاستنارة.
وإذا كان فرز نخب ثقافية من النتائج العرضية لانتشار الجهل وتوسيع قاعدته الشعبية عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، فإن احترام خصوصية العقول المتوقدة، وعدم إرغامها، قسرًا، على الهبوط بالذات نحو غياهب الجهل الشائع يغدو من أساسيات رعاية النخب الثقافية من أجل تفعيل أدوارها التنويرية وتمريرها من حبسها الجامعي الخانق نحو أجواء المجتمع الرحبة كي تخلق نفوسًا متفتحة للاستنارة، لا يخفيها الضوء.
النخبة الثقافية اضطرار، لا ضرورة، بالنسبة لعالمنا العربي، لأنك إن لم تسرع لإنضاج النخبة الثقافية وتبذل ما يسهم في توسيعها وتكريس دورها المجتمعي، فإنك تضع نفسك في طابور طويل ينتظر اضمحلال الثقافة وضمورها حد انطفاء شعلتها وقدحاتها المنشطة.
لقد كان الحديث عن تنافر مفهوم الأرستقراطية الثقافية مع مفهوم دمقرطة الثقافة من المحكات التي نقيس بها أمزجة المتحدثين وتطلعاتهم، بين التقدمي والرجوعي، إلا أن المفهومين قد فرضا نفسيهما اليوم لأن مجتمعاتنا تواصل المسيرة الرجوعية قهقرى نحو الخنوع لآلهة الجهل والأمية والأمية الأخطر، أي الأمية المقنعة التي تفترس دوائرنا ومؤسساتنا بكل وحشية تحت عناوين كثير منها منتحل أو مزيف أو من صنع أموال ثورة النفط.