[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedabdel.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]محمد عبد الصادق[/author]
هل سيأتي العام الجديد حزيناً كئيباً على العرب كسابقه ونظل أسرى أبيات العويل للمتنبي نردد :عيدُ بأية حالٍ عدت يا عيد ..بما مضى أم بأمر فيك تجديدُ.
أدعو الله مع بزوغ فجر العام الجديد أن تبرأ حواضرنا العربية مما أصابها من دمار وخراب وانكسار وأن تسترد القاهرة ودمشق وبغداد عافيتها وألقها، ويعود لميادينها وشوارعها ونواحيها الوهج والبريق الذي عهدناه وتفتحت عيوننا على صوره ولوحاته الجميلة.
نتمنى أن ترجع القاهرة ودمشق وبغداد منارات للثقافة والفن والجمال وتختفي أنباء القتل والدمار ويتوقف نزيف الدماء التي تسيل هدراً دون ذنب ودون مبرر. أتمنى أن تعود القاهرة عاصمة للأمن والأمان يمشي في شوارعها الجميع العرب والعجم مطمئنين آمنين يشتبكون مع أهلها في حوارات الفكاهة والمزاح ويعود أهلها كعهدنا بهم يضحكون من القلب ويلقون النكات ويتبادلون القفشات ويرددون أغاني الحب والحياة.
ننتظر أن تعودي يا دمشق واحة سلام للعروبة والإسلام والإنسانية جمعاء، أن تعود الحياة لقباب الحميدية العتيقة ورائحة الكتب بسوق المسكية وبريق أعمدة جوبتر الدمشقية المرمرية ونفحات الجامع الأموي الكبير وشموخ قلعة دمشق وضريح صلاح الدين الأيوبي الذي أتخيله يقوم من مرقده لأشكو إليه همي ووجعي مما أصاب حواضر العرب وما عليها من البشر والحجر، أتذكر التاريخ والثقافة والعلوم بين جدران المكتبة الظاهرية واستنهض الظاهر بيبرس أستغيث به ليوقف الدمار الذي ينهش أوصال دمشق ويطفئ أسواق حلب ويطمر واحات تدمر ويدنس المتاحف والآثار، استحلفه أن يمنع عنا جحافل الجهل والظلام والفتنة التي حلت بسوريا الحبيبة.
اشتاق لرشفة بوظة دمشقية تطفئ بارود الحرب وسياط القهر والشعور بالهوان الذي جعل أبناء شعب عربي كريم عزيز يتحولون للاجئين.
أحن لعاصمة الخلافة بغداد التي غيبتها سحب الخيانة والعمالة والعداء، لوثت أمواج دجلة وتاهت أشعار جرير والفرزدق وصمتت زنات العود وأوتار الكمان، ليعلو صوت القتل وحشرجات الموت وأنين الأرواح البريئة التي تشكو لبارئها السفك والإزهاق، بعدما احتلت شوارع بغداد فخاخ الغدر وأوكار الكراهية والفناء التي أحالت بهجتها وأفراحها لمواكب حزن لا تريد الانقضاء، ربع قرن من الحزن مر علينا دهراً نترقب عودتك يا بغداد.
ما زالت الذاكرة تحمل يا بغداد ذكريات الجولات الصباحية في شوارعك الأنيقة الآمنة، وفنجان قهوة برازيلية على مقهى الزهاوي بشارع الرشيد وصوت أم كلثوم يصدح يرحب بالجالسين وأحاديث المثقفين والأدباء والفنانين تجبرك للاستدارة نحوهم والاشتباك معهم في حوارات السياسة والشعر والتاريخ التي لا تنتهي. تتألم كلما تذكرت شارع المتنبي وتشاهد ما حاق به من دمار للبشر والمباني الأثرية والمطابع والمكتبات والكتب والمخطوطات النادرة التي لا تعوض بسبب ظلم الإنسان لأخيه الإنسان. آهٍ يا بغداد طال البعاد وأعيانا الانتظار على أمل رجوعك لشعبك وعروبتك قوية عفية شامخة كما عهدناك دائماً.
ولم يرحم الدمار والعنف شوارع القاهرة العتيقة التي قضينا صبانا وشبابنا نتجول بين مكتباتها ومسارحها وسينماتها ومقاهيها، نتسكع على أرصفتها القديمة، نقرأ الصحف والمجلات المعلقة على الجدران ونتصفح الكتب المصفوفة على الطرقات نلتقي الأصدقاء ونشاغب الغرباء، نشاهد نجيب محفوظ يجلس وسط الحرافيش على مقهى ريش، نترقب قدوم نجوم الفكر والأدب والمسرح والسينما ليقيموا الندوات ويفتتحوا المسارح ويقصوا شريط الأفلام، نندس في زحام القاهرة نبدد برودة يناير وننتظر نسمات صيفية على واجهة بحرية لمقهى في شهور الصيف.
ربما عانى المصريون من الفقر على مدار تاريخهم بسبب الاستعمار والظلم الاجتماعي وفساد الحكام وغياب توزيع عادل للثروة وإهمال التنمية في الريف والنزوح للمدينة ـ ولكن لم يسبق للمصريين أن عانوا بجانب الفقر من العنف والتخريب وانعدام الأمان فالمصري (طول عمره) مسالم، ودود، يستقبل الحياة بابتسام.
كنا نمشي في شوارع القاهرة المزدحمة حتى الفجر آمنين مطمئنين على أنفسنا وعلى بناتنا ونسائنا. وكانت القاهرة لا تنام المحلات مضاءة حتى الفجر والمطاعم والمقاهي تعمل حتى الصباح يرتادها المصريون والعرب والأجانب آمنين مطمئنين.
حتى هبت رياح الربيع منذ ثلاث سنوات واستطاع المصريون القيام بثورة ضد مبارك ونظامه وخلعوه من الحكم، وكدنا نطير فرحاً يوم 11 فبراير 2011م بعد نجاح الثورة وظننا أننا تخلصنا من الفساد والديكتاتورية واستبشر المصريون خيراً بما رأوه في ميدان التحرير منذ بداية الثورة وحتى يوم التنحي من لقطات رومانسية جعلت الدموع تنهمر من العيون فرحاً وأملا في مستقبل مشرق: الشباب ينظف الميدان، قس مسيحي يصب الماء لشاب مسلم ليتوضأ، صلاة الجمعة يسبقها القداس، مشاهد تملأ النفس بالبهجة والسرور.
وتنحى مبارك وعاد المعتصمون لمنازلهم، وظهرت وجوه غريبة لم نر لها وجوداً من قبل في الميدان، وبدأت طاحونة العنف ودوامة الأحداث المحزنة التي لا تريد أن تهدأ وتحولت ميادين وشوارع القاهرة لبركان يقذف حممه على الجميع، وركعت القاهرة تحت أسر المتطرفين ومجموعات من الصبية والمراهقين الذين أدمنوا الفوضى والراغبين في تحطيم الدولة بمبرر وجود ثأر مع الداخلية ولكن الواضح أنهم لا يريدون وجودا لأي سلطة تمنعهم عن مزاولة هواية العنف والتخريب، فحرقوا المجمع العلمي الذي أنشئ منذ أكثر من 200 سنة، وأتوا على ما به من كنوز علمية لا تقدر بثمن وأهمها كتاب وصف مصر المكون من 20 مجلدا تحوي رسومات ومعلومات وخرائط عن جميع مناطق ونواحي مصر خلال القرن الثامن عشر، وخربوا مباني وسط القاهرة التاريخية وحرقوا مدارس عمرها أكثر من مائة عام. وامتد التخريب إلى الفنادق والمزارات السياحية وتعرض المتحف المصري للاقتحام والسرقة أكثر من مرة، وأغلقت الحواجز الإسمنتية معظم شوارع وسط القاهرة وأصبح السير في هذه الشوارع محفوفاً بالمخاطر فالمولوتوف والخرطوش في أيدي الصبية وفي أي لحظة يحولون الشوارع الآمنة إلى جحيم واختفى المصريون والعرب والأجانب من شوارع القاهرة ولا ندري متى يعودون.