في السبعينات من القرن الماضي كانت الحرب الأهلية اللبنانية في ذروة مناخاتها القاتلة، وقد كثر الحديث عن التقسيم إلى الحد الذي ظن فيه كثيرون ان قابلية تحققه قد صار قاب قوسن أو أدنى. لكن كاتبا طلع علينا في تلك الأيام الصعبة والفوضوية والضبابية بمقال يتحدث فيه عن امكانية تقسيم العراق قبل لبنان وكان العراق يومها محكوما بسلطة ضعيفة يترأسه عبد الرحمن عارف، لكنه كان ضابط ايقاع للوضع الداخلي، وحين قفز البعث إلى السلطة تم امساك الداخل بقوة لكن المذاهب ظلت والطوائف ايضا، تلك التي لا يمكن اذابتها تحت اي مثال وحكم.
عادت فكرة محاولة التقسيم تطرق باب العراق، وهي ايضا مزقت لبنان بين مذاهب لكنها لم تقسمه، ثم ها هي سوريا لعبت فيها ادوار الفكرة لكنها ظلت عصية وستبقى، اما الذي دخل على خط المؤامرة كما تسمى فكان اليمن الذي يعالج وحدته بالتفكك، ويحاول ان يجد لحمة بين جغرافيته على خطى تقسيم معلوم في صيغة مجهول.
من بالغ الاسف ان يجاهر كثيرون في هذه الاوطان اعلاه بما لا تطمئن له النفوس والنصوص ايضا. نحن امام عالم غريب يتشقق معاني وعبرا، لم يقترب يوما من حافة غرابته كما يفعلها الآن، عالم منبهر بذات لا تعكس حبه للآخر بل الرفض الكامل والشامل، وكلما حدثوه عن الوحدة والتوحد سخر من سوء تقدير المتحدث بأن العرب تغيروا وعليهم ان يتمكنوا من تنفيذ اجندات جديدة عنوانها التفتيت إلى ما لا نهاية .. يجري تسويق الفكرة بشكل علني كما نسمعه وليس همسا .. ففي اليمن يرفض البعض الطرح الفدرالي مما قد يتسبب بحروب جديدة وغزوات بات يلوح لها الرافضون. وفي العراق، يقولون ان داعش تعمم في مناطقها عملة خاصة بها، فكرة قد تستهوي البعض الحالم بهذا العالم الذي سوف يكون وبالا عليه ، سوف يقوم التقسيم على حروب مدمرة لتصل الأمور في النهاية إلى حروب من اجل اعادة الوحدة ولكن بشكل كاسر ايضا .. التقسيم يحتاج لحروب طويلة، واعادة التوحد تحتاج لحروب بلا نهايات.
تربى جيلنا على نكهة خاصة اسمها الوحدة حتى في عز الخوف من التقسيم. نمت اجيال على فكرة تسوية الأزمات العربية بما يتناسب مع اطارها الخارجي الذي كان عاملا متحركا على الدوام، لكنه لم يكن يوما هدفا داخليا، فيما الأمور معكوسة في هذه الأيام، الداخل يتلاعب بميزان الوحدة وباتزانه، والخارج يساعد ضمن حساباته الخاصة، واسرائيل تجد في الأمر خيرا وتسرع في تطبيق غاياتها.
لم يعد يخجل الانفصاليون من البوح بمشاعرهم وافكارهم وخرائطهم .. كأنما لم تعد تعجبهم حتى سايكس بيكو فأرادوا تعديلا يقوم على اضافة تقسيمات عليه لكي يتلاءم مع واقعهم الانفصالي الذي هو كرسي السلطة لا أكثر. كنا نظن ان الامة استفادت من خبرات الماضي والعثرات التي تعرضت لها، لكن قوى على ما يبدو قد استمرأت الجنون التقسيمي بكل هيجانه الطوائفي والمذهبي، وهي في الاساس كانت تخبئ افكارها وسط عبارات معاكسة، اكتشف السوريون بعضها تحت عنوان ربيع دمشق الذي كان يهيئ لمثل هذه الترهات التي تحولت إلى حرب اصطادت الوطن والمواطن وكانت الدولة هدفها، بل الوحدة الوطنية في الأساس.