ما من شك أن النهوض بالمجتمع تختلف وسائل المشاركة فيه، فهي في مجملها عبارة عن جهود، سواء كانت فردية أو جماعية تتكامل لتشكل دعامة أساسية من دعامات بناء المجتمع وتطويره والرقي به، وتشكل أيضًا مزيجًا مركَّبًا يعمل على ربط المجتمع بروابط وأواصر قوية من التلاحم والتعاون، وتنشر فيه ثقافة التكافل الاجتماعي بين أفراده.
وتعد الأعمال الخيرية والتطوعية من القيم والمبادئ الإنسانية والأخلاقية النبيلة، فهي تلعب دورًا كبيرًا في تنمية المجتمعات، وأصبح ينظر إلى انخراط أفراد المجتمعات في الأعمال الخيرية والتطوعية على أنه حالة ترابط طردي، فكلما تقدمت المجتمعات وتطورت تضاعف مستوى العمل الخيري والتطوعي.
وعلى الرغم مما تفرضه متطلبات الحياة وضنك العيش والتفاوت المعيشي من ظروف صعبة على أفراد بالمجتمع، فإن الحراك التطوعي والخيري داخل المجتمع لا تتطلبه فقط الحياة المعاصرة، وإنما يعبر عن مدى ما وصل إليه أفراد المجتمع من ثقافة ووعي وفهم لمعاني الأخوة والإنسانية وقيم المحبة والألفة والتعاون والتكافل والتراحم، وأن العمل الخيري والتطوعي هو إحدى وسائل تعميق هذا الفهم والوعي، وأنه رافعة حقيقية لعملية بناء المجتمع وتنميته، وتنمية أفراده وتحسين أحوالهم المعيشية والاجتماعية والاقتصادية، لا سيما وأن من حِكَم الله في خلقه أن خلق الناس متفاوتين في أحوالهم ومعيشتهم وظروفهم، وشجعهم على التدافع فيما بينهم، وحثهم على البذل والعطاء والصدقة والزكاة والتعاون والتراحم والتكافل، وقدر ذلك وأجزل له الأجر والثواب وجعله سببًا من أسباب دخول الجنة وعلامة من علامات الإيمان، فالعمل التطوعي والخيري الذي يبذله صاحبه سرًّا أو علانية تجاه مجتمعه أو أفراده، كبناء مدرسة أو مسجد أو جامع أو مجلس أو بئر ماء وغيرها، أو كفالة يتيم أو أسرة معوزة أو دعم الجمعيات الأهلية والخيرية، أو دعم مؤسسة من مؤسسات المجتمع، يعد هذا العمل صدقة من الصدقات العظيمة التي تثقل ميزان حسنات صاحبها يوم القيامة، وبالتالي فإن أي مجتمع تسوده ثقافة العمل الخيري والعمل التطوعي لا يمكن وصفه إلا بأنه مجتمع محافظ وطائع للوصايا الربانية والنبوية، مجتمع خيِّر متكافل مترابط متراحم متواد، مجتمع متحضر خاصة إذا كانت هذه الثقافة منظمة تنظيمًا سليمًا وصحيحًا.
صحيح أن الحياة الاجتماعية وتطور الأساليب المعيشية والتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والأمنية والتقنية المتسارعة تضغط على شرائح داخل المجتمع، وتجعلهم أمام راهن مستجد ووضع وظرف جديدين يتطلب تدخلًا ملائمًا لمعالجته والتخفيف عن كاهل من ضغطت عليهم تلك بظروفها وأوضاعها ومستجداتها، إلا أن هذا التدخل والمعالجة قد يقع في فهم الكثير من الناس أن مسؤوليتهما تقع على عاتق الحكومة فقط دون أفراد المجتمع وبقية مؤسساته، وهذا بالطبع غير صحيح، ويعبر عن فهم ضيق وجهل ليس فحسب بمقاصد الدين الإسلامي ووصاياه بشرائح الفقراء والمساكين والأيتام وابن السبيل وعامة المحتاجين، وتنفيذ مفاهيم التكافل والتراحم والتعاون، وإنما بالحياة الاجتماعية وعدم قدرة استغناء الفرد عن أخيه، فهو اجتماعي بالفطرة وبالطبع. ولذلك فإن تضافر الجهود الرسمية والشعبية لمواجهة هذا الواقع وهذه الأوضاع والظروف الضاغطة مثلما هو واجب شرعي على المقتدرين، هو مظهر إنساني وحضاري وقيمي وأخلاقي، فحرص الأفراد والمؤسسات والهيئات والشركات على تقديم العون والمساعدة يشجع الآخرين على البذل والعون، ويفتح مجالًا رحبًا لثقافة العمل التطوعي والخيري فيؤدي إلى التكامل والتنافس ويغرس في المجتمع ثقافة العطاء وقيم الخير ومعاني الفضيلة، وبالتالي يكون جميع أفراده إيجابيين وتذوب بينهم الفوارق وتغيب أسباب الشحناء والكراهية والحقد، ما يجعل المجتمع مجتمعًا متماسكًا متحابًّا مُحِبًّا للخير منتجًا وإيجابيًّا والذي سيكون حينئذ قادرًا على مواكبة ما يحتاجه أفراده الذين تتسع احتياجاتهم تبعًا لازدياد نموهم.
وفي ظل ما يشهده المجتمع من زيادة في عدد أفراده وتنامٍ في المتطلبات والاحتياجات ليس بالضرورة أن تكون الدولة قادرة على تلبية كافة متطلبات مواطنيها وإشباع حاجاتهم، إلا أن العمل الخيري والتطوعي هنا يبرز دوره الفاعل في مؤازرة جهود الدولة، ولكونه أحد جوانب التكافل الاجتماعي يبقى مطلبًا لدى الكثير من المعوزين باعتباره وسيلة تخفف عن كاهلهم أعباء الحياة ومصاعبها، ووسيلة لذوي اليسر والغنى الساعين إلى خدمة مجتمعهم وأفراده، وإلى نيل رضا الله وإثقال ميزان حسناتهم بالصدقة والزكاة.
واستطلاع أحوال المواطن العماني الذي أعده المركز الوطني للإحصاء والمعلومات حول العمل التطوعي والعمل الخيري، يبعث الفخر بما وصلت إليه ثقافة التطوع والعمل الخيري في مجتمعنا العماني ومدى الانتشار الواسع لهذه الثقافة والفهم والوعي بدور العمل التطوعي والخيري داخل المجتمع، ويعبر عن خصوصية الجينات العمانية وقوة وشائج الدم والترابط، وقبل ذلك التمسك بوصايا الدين والعقيدة والاقتداء بسيرة خير الأنام ورسول الرحمة والمحبة محمد صلى الله عليه وسلم، حيث أشار الاستطلاع إلى أن 37% ممن شملهم الاستطلاع قاموا بعمل تطوعي، كما أن 62% قاموا بالتبرع لعمل خيري، الأمر الذي يعكس مدى انتشار ثقافة العمل الخيري والتطوعي في السلطنة. وأظهرت نتائج الاستطلاع أن أكثر من نصف المتطوعين (51%) من مخرجات الثانوية العامة والدبلوم العام، فيما كان 12% منهم من حملة الشهادة الابتدائية و6% منهم أميون و6% من حملة البكالوريوس أو الليسانس و6% تعليمهم دبلوم بعد الثانوية و12% إعدادية مقابل نسبة ضئيلة في كل من حملة الماجستير والدكتوراة والتعليم الأساسي لا تتعدى الـ1%.
وعلى الرغم ما يبثه هذا الاستطلاع من مشاعر فخر وابتهاج واعتزاز بالهوية العمانية والانتماء لهذا الوطن والتمسك بقيم الدين، وتعظيم معاني التكافل والتراحم والتعاون، فإن الأمل كبير في توسع هذه الثقافة لتشمل جميع المستويات والشرائح والفئات والمؤسسات، والعمل على تأصيل ثقافة التطوع والعمل الخيري، والوقوف مع الحكومة كتفًا بكتف. فحينما يستغل الشباب طاقاتهم في خدمة المجتمع، فهم بذلك يستثمرون في تجميل الحاضر وصنع مستقبل أفضل لهم ولأجيال قادمة لا بد وأنها ستحمل الراية في يوم ما.