[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/suodalharthy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]سعود بن علي الحارثي[/author]
” .. من المعروف أن كل مدينة أو قرية أو تجمع سكاني يقوم تصميمه وتوضع هندسته وفقا لمجرى الفلج الذي تقوم عليه الحياة, فالقلعة والمسجد والمنازل والسوق والحقول الزراعية التي تتطور وتتسع باستمرار جميعها تتصل بالفلج أو أنه أي الفلج يمر عبرها, وفي كل مساء يستقبل السوق المحلي الكثير من المنتجات الزراعية والحرفية والاستهلاكية الأخرى والثمار الموسمية...”
ــــــــــــــــــــــــــــ
الثاني عشر: الحقل الزراعي:
جاء في كتاب ( في ظلال الأسلاف) لسيرج كلوزيو وموريسيو توزي ما يلي:(( إن تاريخ الزراعة في عمان ما هو إلا تاريخ العبقرية الإنسانية في البناء والصيانة وتشغيل كل هذه الوسائل من أجل الحصول على المياه, نقلها وتخزينها من الطبقات الصخرية المائية مع تطوير التقنيات المناسبة للمحاصيل الزراعية ... )) . وفي جزء آخر من الكتاب ورد ما يلي: (( ثمة مستوطنات زراعية كبيرة مؤرخة للألف الثالث قبل الميلاد اكتشفت وتم تنقيبها بالتفصيل تقريبا في بات وبسيا وعملا والميسر وينقل وبهلاء ونزوى وإبراء .... )). لقد ارتبط الإنسان العماني بمهنة الزراعة منذ أن اقترن اسمه بهذه الرقعة الجغرافية التي استوطنها وعاش فيها وأحبها وتمسك بترابها في علاقة حب ووفاء متبادلين بين الأرض والإنسان توطت وتجذرت عبر عصور موغلة في القدم عاشتها سلسلة من الأجيال المتعاقبة التي واصلت البناء والنمو وعملت بعزم وصبر وخاضت التحديات وتغلبت عليها ودافعت باستماتة عن أرض عمان كلما تعرضت للأخطار والمحن , ورغم أن تصنيف المنطقة يأتي ضمن المناطق الجافة من العالم بسبب ما تعانيه من تدني في مستويات سقوط المطر وتباين هذا السقوط من عام إلى آخر ومن منطقة إلى أخرى, إلا أن العماني ابتكر الكثير من الأفكار البديعة والناجحة للتغلب على طبيعة الأرض, تمثلت في البحث عن مصادر المياه ومن ثم حفظها وترشيدها وضمان استمراريتها أيام الجفاف وتوزيعها وفق آليات عادلة ووصولها إلى مختلف الحقول في المنطقة الواحدة أو في القرية في إدراك تفرضه الضرورة بأن الماء ومعه الزراعة عنصران أساسيان للاستقرار وضمان استمرار الحياة والتمسك بالأرض وإشباع الحاجة الضرورية والاستقلال والاستغناء عن الآخر .. فكانت الأفلاج العمانية محط إعجاب الشعوب والمجتمعات الأخرى من حيث عظمة الفكرة ونجاحها والبراعة في الهندسة والجمال في التصميم والابداع في العمل وقدرة تلك الأفلاج على تحقيق الأهداف المشار إليها وما تطلبته من عزم وجهد كبيرين في عمليات الحفر والشق وإنشاء السواقي عبر الجبال والأودية والسهول في مواقع صلبة وصعبة وفي زمن لم تكن تتوفر فيه الوسائل والأدوات الحديثة في مثل هذه العمليات, هذا إلى جانب أن بعض الأفلاج قد تبعد منابعها عن الحقول الزراعية ما يزيد على عشرة كيلومترات, وهو ما تطرقنا له بالتفصيل في عنوان خاص بالأفلاج. وكلما نبعت فكرة أخرى بتنفيذ وإنشاء فلج جديد في مكان ما نشأ مع تلك الفكرة تجمع سكاني آخر ومعهما تطورت الحياة وقام البناء واستصلحت الأرض الزراعية وتوزعت الحيازات بين الأفراد والأسر في المجتمع الجديد وبمرور الأيام اكتست الواحة باللون الأخضر, فأصناف النخيل الذي يتأقلم مع طبيعة المنطقة ويكثر في الواحات العمانية ويرتبط ارتباطا وثيقا بعمان وإنسانها ومعها أشجار الليمون والأنبا والسفرجل والرمان والجوافة والفافاي والعنب والموز ومختلف أصناف الخضروات .. لا يخلو منها حقل من الحقول في جميع القرى والمـدن والمناطق العمانية, فالحقول إلى جانب أنها توفر عملا يوميا للناس ومصدر دخل للكثير من الأسر العمانية ومتنفسا للقرية ومكان ترفيه لسكانها ومسكنا ملائما لأيام الصيف القائضة فهي تضخ عشرات المنتجات يوميا إلى السوق ويستخدم الإنسان عناصرها ومخلفاتها في قضاء وإشباع الكثير من الحاجات, فالواحات (( تشمل أنواعا متنوعة من الأنظمة الزراعية وتسمح بإنتاج أنواع متباينة من المحاصيل في أوقات مختلفة خلال العام. وأغلب هذه المحاصيل ذات قيمة غذائية عالية ... )). ويشير جون كيلي إلى أن (( دخل المحاصيل الزراعية لمنطقة الباطنة يقدر بنحو مائة ألف روبية في العام في العقد الأخير من القرن الثامن عشر ... )). ووصف بارسونز المانجو العماني بأنه (( أحلى مذاقا من المانجو الهندي وكانت أسعاره زهيدة إذ بلغ سعر ألفي حبة منه نحو روبيتين هنديتين .. )) من كتاب عمان في عهدي الإمام سعيد والسيد سلطان بن أحمد البوسعيدي للدكتور صالح بن عامر الخروصي. ونضيف إليها في أيامنا المعاصرة امتيازات أخرى منها أنها مقوم أساسي من المقومات السياحية وثراء قطاعي له امتداده التاريخي وعامل مهم للحفاظ على جمال البيئة ودعم الجهود المبذولة في سبيل انتشار الرقعة الخضراء لما في ذلك من فوائد على صحة الإنسان والتخفيف من آثار التلوث .. وبذل العماني جهودا كبيرة للحفاظ على مزروعاته من الجفاف وذلك بترشيد استخدامات المياه وتعميق الآبار ما أمكن ذلك وصيانة الأفلاج وخدمتها وجمع المياه في برك صغيرة ليتمكن من سقي الأشجار والاستغناء عن بعض المزروعات إلى أوقات الخصب والحفاظ على الضروريات , فظل محافظا على حقله وفيا لنخيله وأشجاره حتى في أيام القحط, ومن المعروف أن كل مدينة أو قرية أو تجمع سكاني يقوم تصميمه وتوضع هندسته وفقا لمجرى الفلج الذي تقوم عليه الحياة, فالقلعة والمسجد والمنازل والسوق والحقول الزراعية التي تتطور وتتسع باستمرار جميعها تتصل بالفلج أو أنه أي الفلج يمر عبرها, وفي كل مساء يستقبل السوق المحلي الكثير من المنتجات الزراعية والحرفية والاستهلاكية الأخرى والثمار الموسمية التي تأتي مباشرة من الحقول المجاورة والبعيدة ويجد المجتمع كفايته من تلك المنتجات باستثناء القليل من الثمار غير الموسمية التي تأتي من الخارج, وكانت أعمال صيانة وإحياء الأفلاج القديمة وإنشاء أو إظهار أفلاج جديدة من الأعمال المميزة التي تلقى الاشادة والتقدير من المجتمع, وقد حفلت كتب التاريخ والسيرة المنقولة عبر الأجيال بعدد من الشخصيات التي قامت بمثل هذه الأعمال فاكتسبت مكانة مميزة وبقيت أسماؤها خالدة في النفوس, وعندما يتعرض فلج ما للهدم أو التخريب أو الانقطاع بسبب الأودية أو الجفاف أو الصراعات بين القبائل يهب أبناء القرية جميعا لصيانته وتنظيفه وإعادته إلى سابق عهده .. فالحقل جزء أساسي في حياة العماني وقلما نجد أسرة لا تملك حقلا زراعيا أو تعمل فيه أو تأخذ منه قوتا لها ولحيواناتها, وفي كل منزل قروي أو في الحقل تربى الأغنام والأبقار وأنواع الدواجن وفي الحضائر توجد الخيول والابل والحمير وغيرها, وهذه تعتمد في حياتها وبقائها على الحقل الزراعي, ولحومها وألبانها وأصوافها واستخداماتها الأخرى تشكل مع المنتجات الزراعية قاعدة الأمن الغذائي واكتفاء حقيقيا لكل أسرة عمانية , يقول صاحب كتاب ( ملامح عمانية ) يوسف الشاروني (( أولى العمانيون عناية فائقة لاستزراع المنحدرات الجبلية حيث أقاموا المصاطب أو المدرجات المدعومة بجدران قوية , وذلك لتتحقق الاستفادة القصوى من تضاريس السطح ولمنع انجراف أو فقدان هذه الأراضي الزراعية الخصبة .. )) . وبسبب التغيير الكبير الذي حدث في نمط الحياة واختلاف الوسائل المستخدمة وآليات العمل ومناهج التفكير وانتقال الثقل البشري إلى العاصمة مسقط والمدن الأخرى أصبحت الحقول الزراعية تعاني الأمرين من الجفاف والأمراض والاهمال والاستغناء فمن أجل وظيفة زهيدة تقدم راتبا شهريا ثابتا, ومن أجل حفنة من المال تفلت من الجيب قبل لمح البصر, وبسبب الكسل والحرص على الراحة والابتعاد عن الأعمال القاسية والولع بالمظاهر والوجاهة والمباهاة والتقليد والشغف بالمال والثروة .. يحول المزارع أرضه إلى أغراض واستخدامات عقارية أخرى سكنية وتجارية وصناعية, أويبيعها بأرخص الأثمان للتخلص منها ومن عبئها أو يؤجرها لمن يعيث بها فسادا أو يتركها عرضة للاهمال والجفاف والأمراض وقد تغمره السعادة لأن الجفاف خلصه من تركة ثقيلة خلفها له والده فيفلت بذلك من تعيير الناس له لأنه تسبب بموت النخيل والأشجار الأخرى وقد تحولت الكثير من الواحات الزراعية الخضراء إلى أراض صحراوية أو إلى غابات اسمنتية .. هذا هو الواقع الحقيقي الذي تعيشه الحقول الزراعية ومعها الأفلاج , والمؤسسات المتخصصة ساهمت ومازالت في نشوء هذا الواقع لأنها قدمت التراخيص لتحويل الأراضي الزراعية لاستخدامات أخرى, ولأنها مقصرة في تقديم البرامج والوسائل التوعوية الهادفة إلى حث الناس على التمسك بأراضيها الزراعية ورعايتها وصيانتها وتطويرها , ولأنها لم تقدم الدعم المناسب للمزارع في شموليته من حيث توفير المياه وترشيد استخدامه وتقديم المعدات والمبيدات والشتلات ودعم المنتج المحلي وحمايته ورعايته , ولأنها لم تنجح في منع الاستخدام الجائر للمياه والذي أثر تأثيرا بالغا على الأفلاج والآبار المخصصة للزراعة , ولأنها شجعت المواطنين على ترك قراهم ومناطق سكناهم الملاصقة للحقول الزراعية وأنشأت مخططات سكنية جديدة خارج تلك المناطق والقرى .. إننا في حاجة عاجلة إلى تصميم خطة متكاملة تشارك فيها كل جهات الاختصاص والمزارعين والمهتمين تساعد على إعادة الاعتبار إلى الحقول الزراعية وإلى الأفلاج وإعادة المزارع إلى حقله ففي ذلك فوائد كبيرة أشرنا إلى الكثير منها في صلب هذا المقال . يقول الكاتب يوسف الشارون في كتابه (( لم يحرم الله عمان من ذلك اللون الأخضر البهيج, فكانت على مر القرون بلادا زراعية ذات محاصيل متنوعة وافرة تدر على سكانها الخير العميم )) وخصص أقساما مستقلة في كتابه هذا عن النخيل وعن النارجيل والموز والفافاي والليمون , وهي مما تشتهر به عمان وتكثر في حقولها الزراعية . ونختم المقال بما قاله الخبير الفرنسي أوشر ألوي عندما زار الجبل الأخضر حيث ذكر في كتابه أنه (( شاهد أنواعا جديدة من النباتات تصلح لتصديرها إلى أوروبا , كما شاهد في مدينة نخل أنواعا من النباتات لم ير لها مثيلا من قبل ... )) .