[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/ahmedalkadedy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د.أحمد القديدي[/author]
” شرع البعض هذه الأيام يمجدون بورقيبة بمناسبة عيد الاستقلال وبمناسبة ذكرى وفاته فتباروا في تعداد خصال الزعيم بل بالاستعداد لإعادة نصب تماثيله في ساحات المدن كأنما ساعة التاريخ يمكن أن تعود للوراء بهذه السهولة وذلك عمل مكلف بالمليارات لو توجهت مبالغها لتشغيل الشباب لكان أفضل وأجدى..”
ــــــــــــــــــــــــ
تحيي تونس هذه الأيام الذكرى الخامسة عشر لوفاة الزعيم الحبيب بورقيبة في مناخ سياسي مضطرب جعل صورة المرحوم تتشح بالضباب في أذهان الجيل الجديد الذي لم يعش عهد بورقيبة والسبب هو تفاقم عمليات إستقطاب تراث الرجل والتلاعب بتاريخه وتدليس الأحداث الحقيقية بغاية خدمة ركاب مريديه أو أعدائه على السواء فهذا يدعي أن الزعيم معصوم من الخطأ وأنه كان ملاكا طاهرا وذلك يدعي أن الزعيم سبب كل البلاوي التي تعانيها بلاده وأنه كان شيطانا! وقس على هذا العبث بجينات التاريخ ما يحدث سنويا لذكرى عبد الناصر وصدام حسين وبومدين والملك الحسن الثاني وغيرهم من الرموز العربية لأن العرب مع الأسف أهل عاطفة جياشة لا أهل تفكير سليم فاحتار الشباب التونسي والعربي بين هذين الاتجاهين المتطرفين المتضادين وحرموا من معرفة رجال ارتبط اسمهم بتاريخ بلدانهم وتاريخ بورقيبة رحمة الله عليه في تونس الذي لم يعشه الشباب يتعرض لذات التدليس وشذت عن هذا التدليس مؤسسة التميمي الجامعية وحدها فأنارت عقول الناس بالحقيقة المجردة عن الابتزاز السياسوي. ثم إني قرأت ردودا على بعض ما جاء في مذكراتي التي تنشرها مشكورة هذه الأيام صحيفة (الصريح) التونسية فأيقنت بأن بعض الناس عن جهل أو عن تملق أو تمسك بالغش التاريخي لا يتحملون نقدا لزعيمهم (وهو زعيمي أنا أيضا) وفي الواقع لا هو ملاك ولا هو شيطان بل هو إنسان ألهم الله نفسه كسائر البشر فجورها و تقواها ! فبورقيبة هو الذي ساهم بالقسط الأكبر في تحرير تونس والمغرب العربي من الاستعمار الفرنسي وقضى على القبلية و وضع الأسس لبناء دولة وطنية لكنه هو نفسه الذي أمر سنة 1962 بتعذيب عشرة مواطنين تونسيين إتهموا بمؤامرة ضده ومنهم النقابي والدستوري الفاضل رحمة الله عليه الصحبي فرحات الذي توفي في السجن ومنهم المناضل الوطني علي بن سالم أمد الله في أنفاسه و ذلك بطريقة مذلة رهيبة لم تعرفها حتى القرون الوسطى وقبائل (ماو ماو) حيث أوثقوا بسلاسل في أرجلهم شدت إلى جدار ينز عليهم بالرطوبة في سجن غار الملح و ظلوا كالدواب المسعورة (حاشا إنسانيتهم) في أغلالهم سنوات ليلا ونهارا لأن القضاء لو كان منصفا مستقلا بعد إعلان الجمهورية وتنصيب بورقيبة رئيسا اها فهو إذا حاكم رجلا بتهمة فهو إما يعدم أو يسجن لكن بكرامة المواطن مهما كان جرمه (ولقد كرمنا بني أدم) و قبل هؤلاء توفي في السجن الوزير الفاضل محمد سعد الله رائد تحديث الإدارة التونسية وأودع السجن ظلما أفراد من العائلة الحسينية المالكة بدون وجه حق ويجب أن يعرف الشباب هذة الحقائق حتى يعتبر بها ولا يكررها. غفر الله لنا وللزعيم ولكل من سكت عن الظلم. اليوم يتبارى بعض السياسيين في إعادة إنتاج البورقيبية كأنما ليس لتونس جيل جديد من الكفاءات و كأن الزمن توقف عند نهاية حكم بورقيبة وفي المقابل يتبارى سياسيون أخرون في طمس كل مكاسب العهد البورقيبي كأنه هو السبب في مصائبنا بينما الطريق للاستنارة بالتاريخ هو أن نكتبه ونقرأه بموضوعية وتجرد بعيدا عن التأليه أو الشيطنة. و كلاهما عبث بجينات التاريخ.
نتذكر محنة الزعيم بورقيبة وهو في معتقله الأخير بمدينة المنستير حين فرض عليه الرئيس السابق بعد أن عزله إقامة جبرية حولت ذلك الأسد العجوز إلى سجين لا يزوره إلا من يختارهم سجانوه بحذر وخوف. الذي لفت نظري بعد ثورة 2011هو ذلك السيل من تعليقات رجال من جيلنا الذي عمل مع بورقيبة ومنهم المتحسر المنافق عما كابده الزعيم بينما هو خلال 13 سنة من محنة بورقيبة لم يحرك ساكنا و لم يقل كلمة حق وهي حال الأغلبية من وزرائه السابقين الذين لم ينبسوا ببنت شفة ( ماعدا قلة شجاعة ويتيمة) تنديدا بسجنه فالمنظومة السابقة كانت لا ترحم من يقول كلمة حق وكانت تغري بالمناصب أو بمجرد السلامة كل من عمل مع الزعيم و انتبذ مكانا قصيا واستمرت مأساة بورقيبة 13 عاما ختمتها مهزلة جنازته التي أخرجها النظام السابق مثل مسرحية سخيفة خوفا من جثمان الزعيم بعد الخوف من الزعيم حيا.
شرع البعض هذه الأيام يمجدون بورقيبة بمناسبة عيد الإستقلال وبمناسبة ذكرى وفاته فتباروا في تعداد خصال الزعيم بل بالاستعداد لإعادة نصب تماثيله في ساحات المدن كأنما ساعة التاريخ يمكن أن تعود للوراء بهذه السهولة وذلك عمل مكلف بالمليارات لو توجهت مبالغها لتشغيل الشباب لكان أفضل وأجدى لأن عملهم ينطلق لا من الوفاء ولا من الحقيقة التاريخية بل من منطق إنتحال تراث بورقيبة فوظفوا هذه المناسبات بطريقة ديماغوجية لا تليق بتاريخ تونس الذي يجب أن يبقى من أنظار المؤرخين لا في أيدي السياسيين. وانقسم المتكلمون إلى مؤله للزعيم بكونه كان ملاكا وإلى شاتم له بكونه كان شيطانا. وقرأت العجب العجاب في قلب الحقائق وتدليس التاريخ وأغرب ما قرأت هو كلام طبيبه الخاص ووزيره السابق الذي أكد أن الزعيم ليلة 7 نوفمبر 87 ليلة إنقلاب وزيره الأول عليه كان في تمام مداركه العقلية وهذا هراء لا يستقيم لأن الخطأ القاتل لبورقيبة هو تشبثه بأوهام السلطة وهو في أرذل العمر كما قرأت لأحد الذين انتقدوني على بعض ما ورد في مذكراتي من حقائق بدعوى أنني أنا نفسي عملت مع بورقيبة كأنما الذي تحمل بعض المسؤوليات مطالب بكيل المديح طول حياته دون مراجعة وقرأت أيضا لوزير سابق يريد أن ينفي بعض ما أوردته من أيام الجمر على لسانه وأنا أعذره وأتفهم شتمه لي بما لا يليق بأمثاله خاصة و قد ضحكت لما قاله عني أني في خريف العمر لأنه .... هو لايزال في ربيع العمر زاده الله شبابا رغم بلوغه منتصف العقد التاسع ! مع العلم أني اليوم حل من كل المطامع في المناصب أعيش بعيدا بمحض إرادتي عن الصراعات البائسة والتجاذبات المخزية فلا غاية لي سوى قول ما أعتقده الحق ولا أدعي امتلاك الحق فليناقشني من أجل إظهاره من يشاء وأنا بفضل علاقاتي الوثيقة والطويلة بصديقين عاشا في قلب تلك المرحلة القاسية و التراجيدية من حياة بورقيبة وهما رئيس حكومته محمد مزالي وسكرتيره الأول محمود بلحسين أعرف وبالوثائق أسرار وخفايا تلك المرحلة المبكية المضحكة من "غرق" بورقيبة في لجة العمر و"غرق" تونس في لجة الإستبداد. وهي أسرار أحتفظ بها اليوم لنفسي حتى تهدأ عواصف الأحقاد والمزايدات وسوف أنشرها على جيل المؤرخين النزهاء في الوقت المناسب لو قدر الله لي فسحة من عمر من أجل المساهمة بقسط متواضع في كتابة تاريخ أمين لتونس. فبدون إعادة كتابة التاريخ الحديث بصدق لن تنهض بلادنا و لا بلاد العرب من نكساتها العديدة و من مخاطر عودة الاستبداد لأنها ستكرر نفس الأخطاء الفادحة!