ما من شك أن حدث الإسراء والمعراج يقدم دروسًا بليغة للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، لعلنا نلتمس بعضها في المعاني والدلالات التي ينطوي عليها توقيت الحدث، فقد جاء بعد وفاة أبي طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي كان يمده بالعون والتأييد ويحول بينه وبين محاولات مشركي قلة للنيل منه والفتك به، ثم وفاة السيدة خديجة رضي الله عنها بعد ذلك، وهي التي كانت نعم الزوجة والرفيق والنصير للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ثم رحلته إلى الطائف يلتمس التأييد والمناصرة من أهلها فلم يصادف إلا الاستهزاء من زعمائها وسفهائها وأطفالها، وتسليطهم عليه لينالوا منه ويرموه بالحجارة حتى أدموا قدميه الشريفتين، وهناك دعا ربه يشكو إليه ضعفه وقلة حيلته وهوانه على الناس، فجاءه جبريل عليه السلام وأخبره أن ملك الجبال يمكن أن يطبق الجبلين على الطائف وأهلها، وكان الرد الكريم بأنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ يرجو الله أن يأتي من أصلاب هؤلاء من يؤمن بالله. فمن بين هذه الدروس الاطمئنان إلى نصر الله تعالى والثقة به والتوكل عليه، مهما اشتد الخطب وادلهمت الظروف وأحلكت الأوقات، وأهمية التحلي بالصبر والجلد مهما كانت الشدائد، والانحياز دائمًا إلى الحكمة والموعظة الحسنة والدعوة إلى سبيل الله والجدل مع الغير بالتي هي أحسن، فما كان أيسر على الرسول الكريم أن يأمر ملك الجبال فيطبقها على من آذوه وسخروا منه واستهزأوا بدعوته، لكنه لم يفعل ذلك لأنه نبي الرحمة حتى بمن آذوه، وكذلك تأكيد مكانة الأقصى لدى المسلمين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لهذا يتوجب عليهم تحريره وفك أسره ليظل مفتوحًا دائمًا للراكعين الساجدين، وملاذًا آمنًا بكل من يؤمن بالله ولا يشرك به أحدًا، إلى جانب تلك الحكمة الربانية المتمثلة في إمامة رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه لكل الرسل والأنبياء في الصلاة بالمسجد الأقصى، للتأكيد على أنه ـ عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام ـ خاتم الأنبياء والمرسلين، وأن الدين عندالله الإسلام، وأن هذه العقيدة السمحة صالحة لكل زمان ومكان وهي التي ارتضاها الله لعباده أجمعين إلى أن يقضي أمرًا كان مفعولًا.
إن المسلمين اليوم في شتى أنحاء الأرض، وهم يحتفلون بذكرى هذا الحدث العظيم، بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى استلهام الدروس والموعظة من المناسبات الدينية الفريدة التي يكتنزها التاريخ الإسلامي وإحداها ذكرى الإسراء والمعراج، ولكون هذه الذكرى مرتبطة ببيت المقدس الذي أسري بالرسول صلى الله عليه وسلم إليه من المسجد الحرام، تأتي وقد بات المسجد الأقصى يئن تحت عمليات التدنيس والتهويد، وقد قسمته سلطات الاحتلال الإسرائيلي إلى قسمين زماني ومكاني، وتتهدد أساساته الحفريات المتواصلة والقائمة على المزاعم والأوهام التلمودية بوجود ما يسمى الهيكل المزعوم تحت أساساته، وأصبحت مدينة القدس مدينة مدنسة بالاحتلال والتهويد ويطمس فيها كل ما يمت إلى هويتها العربية والإسلامية. كما تأتي هذه الذكرى العطرة وقد أمسى المسلمون أشتاتًا وفرقًا وطوائف متناحرة تعصف بهم مكائد أعدائهم ومؤامراتهم، وأضاعوا اتجاه بوصلتهم الحقيقي وهو وحدتهم وتمسكهم بعقيدتهم السمحة وبرسالة الإسلام المتسامحة المحبة للخير للناس أجمعين ومحاورة مخالفيها بأسلوب عقلاني ومنطقي يجمع بين الحكمة والموعظة الحسنة واللين واللطافة في التعبير بهدف الإقناع العقلي، وللأسف وبدلًا من تمسكهم بذلك أعطوا الخيط والمخيط لأعدائهم ليرسموا حاضرهم وملامح مستقبلهم، ملغمين طريقهم نحو ذلك بالدسائس والمؤامرات والفتن الطائفية والمذهبية، فذهبت ريح المسلمين وغَدَا بأسهم بينهم شديدًا، وتكفل أعداؤهم بتأجيج النيران بالمؤامرات والسلاح لا ليشغلوا المسلمين في أنفسهم فحسب، وإنما ليجنوا ثمار ذلك التي تبدو ظاهرة للعيان، سواء داخل فلسطين المحتلة أو خارجها في الدول العربية والإسلامية.
إن تاريخ المسلمين مليء بالشواهد الناصعة على إيجابية دين الإسلام ومنفعته الكبيرة للبشرية جمعاء، ولذلك فإن المسلمين اليوم أكثر من أي وقت مضى لإعادة دورة التاريخ التي كانت في عهد النبوة ومواجهة الحجة بالحجة ومعالجة التشوهات التي ألحقوها بصورة الإسلام وبصورتهم كأتباع له، وعلى المسلمين جميعًا في مشارق الأرض ومغاربها البحث دون كلل عن النقاط التي تقارب أحداث العصر مقاربة موضوعية بعيدًا عن لغة الإرهاب والعنف والتكفير والتماسًا لأطر الحوار الموضوعي مع النفس في الغالب الأعم، ثم مع الآخرين، فحين يدعونا الإسلام إلى الجهاد فإنما يدعونا إلى مجاهدة النفس الأمارة بالسوء، ومجاهدة النفس تعني جملة من الممارسات والسلوكيات التي ترتق علاقاتنا بالآخرين وتعزز لغة التقارب، وتعمق مفهوم التسامح، وكل ذلك هو ما وصفه الإسلام على لسان الرسول الكريم بـ(الجهاد الأكبر). فما أحوج المسلمين اليوم أن يتبصروا إلى أي حال صارت أحوالهم وما أسباب ذلك وما عدتهم لاجتياز هذا المنعطف الصعب والخطير في التاريخ المعاصر. ولا مجال إزاء ذلك إلا بالتأسي بخلق الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم الذي جاء رحمة للعالمين بلا استثناء، ومتممًا لمكارم الأخلاق، وذلك بالأخذ بكل الأسباب التي تقودهم للانتصار على أعدائهم، ورد أطماع الآخرين عنهم، والدفاع عن مقدساتهم وحرمة أنفسهم وأموالهم وأرضهم وبنيهم.