مسقط ـ العمانية:
في مجموعته القصصية الأولى "رغيف أسود" يغوص الكاتب الدكتور سعيد السيابي عميقا في تفاصيل البسطاء من الناس، فيقف بجوار ألمهم ويوغل عميقا حيث حزنهم.. فيحفر في الطبقات السفلى للمجتمع لكي يكشف تفاصيله بمرارة حارقة، مرارة تلمظ كسرة خبز محترقة أو تبحث عن سطح منسي لا يكشف تفاصيل انكسارها الداخلي.
يختار السيابي شخصياته المتشظية والمتكسرة من الهامش، شخصيات مغمورة ومغبونة ، ترضى بالخنوع في استكانة وديعة. والمجموعة الصادرة حديثا عن بيت الغشام للنشر والترجمة اختار لها السيابي عنوان أولى القصص القصيرة التي ضمتها المجموعة والتي تنوعت بين القصة القصيرة والقصة المشهد والقصة الومضة. في قصة رغيف أسود يختار شخصية مطحونة "نبذته الجذور والفصول والحدود" فلم يجد المقام الذي لهث إليه بأحلامه قبل أن يصادفه في أرض ليست من ثوبه فعقد العزم على نسيان الماضي.. وبدأ بمخبر بسيط وضع فيه تحويشة العمر هربا من جشع التجار فأقام مخبزه في زاوية لا يقطنها إلا من أنهكتهم الحياة. لكن نهاية هذا الخباز كان أن يعود محمولا على الأكتاف إلى مثواه الأخير. أما في قصة جسر معلق فإن الرمد وضع حدا لبصر بطل القصة الذي قادته تعاسته لطلاق أمه ولذلك يدخل للحياة من أوسع أبواب تعاستها.. وفي نفس هذه الأجواء تسير بقية شخصيات قصصه فنجده في قصة "غسيل عاصم" يقول "كان المستأجر الجديد لغرفة السطوح التي استطاع الحصول عليها بشق الأنفس في قلب مكان عمله الذي يتطلب منه الوجود لفترات طويلة مسائية.. كانت هذه الغرفة منتهى أمانيه، تنهض كصارية في قلب موكب، هادئة في الدور الثالث وموقعها ممتاز تدخله الشمس من كل جانب في الصباح من الشرق وفي المساء من الغرب". بهذه الشخصيات يقدم الدكتور سعيد السيابي نقدا اجتماعيا جميلا ومتوازنا لمجتمع من الواضح أنه خبر كل تفاصيله وعاش الكثير منها أو كان قريبا منها يصيخ السمع لها وللكثير من أناتها.. على أن هذا النقد الاجتماعي لا يمكن أن يحصر في مجتمع واحد أو في مساحة مكانية بعينها إنه مجتمع مفتوح وفضاء قابل لأن يكون في أقصى الشرق مثل ما هو قابل لأن يكون في أقصى الغرب.. إنه مجتمع وان كان قريبا من الكاتب إلا أنه مجتمع مطلق.. مجتمع إنساني بامتياز. لم يستخدم الكاتب في نصوصه تعقيدات سردية أو تعقيد في تكنيك السرد، كان واضحا جدا، من خلال استخدامه تقنية السارد العليم الذي يمسك بتلابيب السرد من أوله إلى آخره، مستخدما في الغالب الأعم ضمير الغائب إلا في قصة واحدة استخدم فيها ضمير المتكلم. لكن في قصته "ركاب سيارة أجرة" يستخدم القاص تقنية أقرب إلى التقنية المسرحية أو السينمائية رغم آن السارد في القصة التي تقسمت إلى عدة مقاطع من قبيل "الراكب الأول" والراكب الثاني، وفي كل مقطع يتحدث عن كل راكب ولكن باستخدام ضمير المتكلم والسارد العليم. ضمت المجموعة قصصاً قصيرة جدا، تقدم في الغالب مشهدا مختزلا لكن اللغة المستخدمة في كتابته هي نفس اللغة السهلة التي لم تستطع أن تختزل الكثير من الدلالات المتولدة التي عادة ما تستخدم في كتابة مثل هذه النصوص التي تحتاج إلى براعة في الإمساك باللغة واختزالها قدر الإمكان. واستخدم الكاتب في مجموعته "رغيف أسود" لغة ساخرة ضاربة في عمق الجراح، لغة ظاهرها هزل وباطنها هزء، الشيء الذي يجعل السرد انسيابياً وبسيطاً، كما تقول الناقدة سعاد مساكين. على أن تلك البساطة لا تعني الاستسهال أو السطحية و"إنما تلك البساطة التي تحرك الساكن في أعماق المرء فتحوله إلى حياة ضاجة بالمتناقضات، حياة تمثل آلام وآمال كل إنسان شريف ينتصر للقيم النبيلة على وجه البسيطة، وبين تلك الآلام والآمال يحقق المحكي القصصي بمختلف عوالمه الأثر الجمالي والصدق الفني". تجربة مهمة واضافة للمشهد القصصي العماني وخروج من استخدام اللغة الشعرية إلى اللغة السردية العادية التي تقدم المشهد مباشرة دون الحاجة إلى كثير عناء أو إلى قراءات متوالية، إنها مجموعة تقدم رسالتها أو حمولتها منذ القراءة الأولى وتوضح شخصياتها مباشرة دون الحاجة إلى الكثير من التخرصات. شخصيات الهامش التي حولها الكاتب من خلال "رغيف أسود" إلى شخصيات جوهرية وأعطاها دور البطولة وقدمها القارئ كما هي دون كثير تزييف أو تنميق في لغتها وحواراتها.