[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/aliaklahersan.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]علي عقلة عرسان[/author]
يبدو أن من يرتكبون المفاسد بأنواعها، والجرائم بأوحش صورها وأشكالها، ومن يبيعون ويشترون بدماء الناس ومستقبلهم وأملاكهم وأعراضهم، وكذلك بالأوطان والقيم والأخلاق والأديان، وبكل شيء يمكنهم بيعه وشراءه، ورده منفعة لأنفسهم، أو درجة يرتفعون فوق الناس بارتقائها .. ويفعلون كل ما يستطيعون فعله، من دون رادع من أي نوع .. باسم السياسة والعدالة والحرية والسيادة، وباسم الله والأديان والإنسان .. ويتمكنون من التملص من المسؤولية عن جرائمهم وأفعالهم .. يبدو أنهم يجدون ربيعهم الذي ليس كمثله ربيع، في هذا الزمن الوضيع، زمن قتل الإنسانية في الإنسان .. حيث لا يكتفون بتزوير الوقائع والحقائق، وتشويه القيم والأحكام الأخلاقية، والتفسيرات العقائدية والقانونية، ولا بالانحلال والنهب والقتل والإرهاب، وتعذيب الناس وتشريدهم وإرهابهم واستعبادهم، وجعلهم أشلاءً في قوارب الموت، أو في السجون، أو في المنافي ومعسكرات الذل والعار والموت، أو في ساحات الحرب المهلكة، والفتن المنهِكة .. بل يذهب بهم الغلو والغرور والشر والتيه والغي والبغي إلى حدود اعتبار ما يقطفونه من "ثمار الأنفس والبلدان"، ومن ممارسة أفعال هي الشر المحض، التي تزينها لهم أتفسهم بكل أنواع الزينة .. هي شطارة العباقرة، وقدرة الأفذاذ، وحق "العلية؟" على "السفلة؟"، فيرون أنفسهم أبطالًا في مناقع البؤس والدم وحرائق الأوطان، ودمار الحضارة، واستباحة الناس، والاستهانة بالحياة والحقوق، وبكل ما يسمى حيوات وحقوقًا وحريات للإنسان. وسأقارب بعض ما يتصل بهذا الفساد النفسي والروحي، عبر واقعية مضت إلى الطبيعية، من خلال نص للألماني هاوبتمان.
يُعَدّ جرهارت يوهان روبرت هاوبتمان Gerhart Hauptmann ١٥تشرين الثاني/ نوفمبر1862 ـ 6 حزيران/يونيو 1946 من أهم كتاب الأدب الحديث في ألمانيا، وهو شاعر ومسرحي، وروائي حصل على جائزة نوبل في الآداب لعام 1912. ولد عام 1862 في مقاطعة (شيليزيا) في شرق ألمانيا، وعاشر العمال والبؤساء، وارتبط بهم، وتبنى مشكلاتهم، وكان كغيره من كتاب القرن التاسع عشر، متأثرًا بالنزعة الطبيعية، فأظهر كل ذلك في مسرحه، من خلال ربطه للشخصيات بواقعها الطبقي، وبيئتها الاجتماعية، وتأثير الوراثة والوسط على سلوكها وتفكيرها.
كتب هاوبتمان القصة والرواية، ومن روايته: "البلاهة في المسيح" و"إيمانوئيل كونيت"، وله عدة مسرحيات نذكر منها: (قبل الشروق أو قبل الفجر ـ حيونات متوحشة ـ عيد السلام ـ ناس متوحدون ـ الناقوس الغريق ـ هانيلة ـ دريمان هنشل ـ الزميل كرابمتون ـ النساجون ـ روز بيرند ـ ومعطف الفراء، وهي كوميديًّا مُثِّلتْ أول مرة في ألمانيا عام 1893 على المسرح الألماني ببرلين.
ومسرحية معطف الفراء، التي نتوقف عندها، حوادثها بسيطة، ولكنها تكشف عن سلوك الشخصيات وأخلاقها بدقة وعمق؛ فالسيدة فولف تعمل غسالة، وتسيطر على زوجها وابنتيها (ليونتينا وأدلهايد)، وهي لا تتورع عن السرقة، وعن دفع أحد أفراد أسرتها إلى السرقة أيضًا، ولا تكف عن خلق المشكلات في البيت لزوجها، حتى لا يستطيع أن يرفع رأسه. وأول ما تقوم به السيدة فولف من سرقات، خلال المسرحية، يكون بالتعاون مع زوجها، فهي تدفعه إلى استعمال أنشوطته لصيد الغزلان من الغابة، وتبيعها إلى فولكوف، وهو مهرب عبر أحد الأنهار. ويبرز من المشاهد الأولى سلوك فولف، فهي تكذب، وتخاتل، وتحب المادة، وتخفي معالم كذبها بأسلوب بارع، وتدفع ابنتيها إلى المشاركة في الكذب، بل وتشجعهما، بأن تسند إليهما المهام. إن ابنتها ليونتينا تعمل عند كروجر خادمة، وكروجر هذا رجل تقدمت به السن، وهو أخلاقي أمين. إنه ثري، ومن أصحاب الأملاك، ويعادي الحاكم الغبي فيرهان، لأن الأخير لا يهتم بتنظيف القرية من اللصوص والأشخاص الذين لا يتصفون بأخلاق حسنة، بل يطارد المثقفين والأخلاقيين أمثال كروجر والدكتور فلايشر.
لونتينا ابنة فولف التي تعمل عند كروجر، تهرب من بيته، وتشتكي لأمها من أن السيد كروجر، يريد منها أن تُدخل مترين من خشب الوقود إلى المخزن، في الساعة التاسعة، وأنها لا تستطيع القيام بهذا العمل، فهي مرهقة، وعائلة كروجر تضايقها. وتقترح فولف أن تبقى ابنتها في البيت، وتقوم هي بعد فترة بسرقة الخشب العائد للسيد كروجر، وتدخله إلى بيتها بمساعدة أحد حراس الحاكم فيرهان وجواسيسه، الذي يتردد إلى منزل فولف، وتسد حلقه ببعض المِنَحْ الصغيرة.
وتزداد السرقات في المنطقة: الغزلان وخشب كروجر، والحاكم فيرهان لا يهتم بكل ذلك. إن كل ما يشغل باله هو: كيف يلاحق كلًا من كروجر وفلايشر، لأنهما يحملان بعض الأفكار التقدمية، لاسيما الأخير منهما. ويعتمد الحاكم على الجواسيس والقوادين والغسالات للوصول إلى "حقائق" عن الناس، وعن الأمور التي تدور في منطقته. ويذهب كروجر ليشتكي للحاكم، ولكن هذا الأخير يقابله ببرود وعدم اكتراث يصلان إلى حد أن يطرده في النهاية .. بعد حوار بينهما:
كروجر: لقد سُرقتُ يا سيدي الحاكم.
فيرهان: سُرقت؟ هم...
كروجر: نعم سُرقت... سُرقت... لقد سرقوا مني مترين من الخشب.
فيرهان: ومع ذلك لم يحدث في الفترة الأخيرة أي شيء مثل هذا.
كروجر: ماذا؟! لم يحدث أي شيء؟! يا إلهي... إذن فأنا هنا لكي ألهو؟
فيرهان: هذا لا يدعوك لأن تخرج عن حدودك. ما علينا، ما اسمك؟
كروجر: ما اسمي؟!
فيرهان: نعم.. ماذا تدعى؟!
كروجر: أما زال اسمي مجهولًا لديك؟ أظن أنه قد حدث لنا شرف التقابل من قبل.
فيرهان: آسف، فأنا لا أستطيع أن أتذكر، ومع ذلك فالأمر سيان.
كروجر: اسمي كروجر..
فيرهان: صاحب أملاك على ما أعتقد؟!..
كروجر: تمامًا.. صاحبُ أملاك، ومالك لبعض المنازل.
فيرهان: تفضل وأثبت لنا ذلك.
كروجر: أثبت؟! أثبت؟! أنا اسمي كروجر، ولا داعي لكل هذه الإجراءات، فأنا مقيم هنا منذ ثلاثين عامًا، وكلُ طفل في الشارع يعرفني.
فيرهان: لا يعنيني إطلاقًا، منذ متى وأنت هنا. أريد فقط إثباتًا لشخصيتك.
هكذا يقابل الحاكم فيرهان هذه القضايا التي تتعلق باللصوص والسرقات، بينما يوجه اهتمامًا خاصًّا لقضايا التجسس على الأشخاص، واتهام المثقفين في المنطقة.
وتعقب هذه السرقة سرقة أخرى من منزل كروجر نفسه، فإن السيدة فولف، بعد أن سرقت الخشب، اختلقت سببًا للخلاف مع كروجر وتشاجرت معه أمام الحاكم، ولم تعد ترسل ابنتها لخدمته، كما امتنعت عن الغسيل في بيته.. وبدأت من ثمة تمهد لسرقة أكبر، ففي منزل كروجر معطف فراء جيد جدًّا، وقد ذكر أمامها المهرب فولكوف أنه يفكر بشراء معطف فراء، ليقيه البرد والجليد، في أثناء قيامه برحلاته في النهر، وصممت هي على أن تسرق معطف الفراء من بيت كروجر، وتبيعه له. وفعلًا استطاعت أن تسرق المعطف، وباعته لفولكوف بثمن لا بأس به. وسافر فولكوف في رحلته كالمعتاد، ولكن النهر كان قد تجمد من شدة البرد، ولم يستطع فولكوف أن يغادر المنطقة، وبقي محتَجزًا طيلة يومين، ولم تكن هي تعرف ذلك. لقد اهتمت، أول ما اهتمت، بعد بيع المعطف، بإخفاء المال. وأمرت زوجها فحفر حفرة في مكان أمين أخفت فيها النقود.
ولكن الأمور تسير في طريق يؤدي، أو يكاد يؤدي، إلى كشف السرقة. فقد خرج فلايشر صديق كروجر في نزهة، وشاهد أحد أصحاب المراكب، وهو فولكوف، يرتدي معطف فراء فاخر. وعندما أثيرت الضجة حول سرقة معطف الفراء من بيت كروجر، ذهب فلايشر إلى الحاكم وشرح له ما رآه. ولكن الحاكم قابل ذلك، كعادته، ببرود واستهتار وعدم اكتراث.. بل هزئ من شهادة فلايشر ومعلوماته:
"فيرهان: قصصت علينا قصة مراكبي يرتدي معطفًا من الفراء، ومعظم المراكبية يرتدون معاطف من الفراء، وليس في هذا جديد. رجل في غاية الغباء".
وعندما يحضر كروجر ويشتكي يقابله الحاكم بسخرية أمرّ من سخريته بفلايشر:
فيرهان: ما هي شكواك؟!
كروجر: ليس لدي شكوى، ليس لدي أي شكوى على الإطلاق، حضرتُ لأطالب بحقي المشروع.
فيرهان: وما هو هذا الحق المشروع؟!
كروجر: حقي يا سيادة الحاكم، حقي كضحية في سَرِقَة، أنْ تقف السلطات بجواري لاسترداد ممتلكاتي.
فيرهان: وهل منعت عنك العون؟!
كروجر: كلا على الإطلاق، لم يحدث هذا طبعًا، ولكنني مع ذلك لم أجد أي إجراء اتخذ.. لم يتقدم الموضوع على الإطلاق.
فيرهان: أتظن أن هذا يحدث في غمضة عين؟!
كروجر: لا أظن شيئًا يا سيدي الحاكم، وإلا ما كنت حضرت هنا. ولدي بالإضافة إلى ذلك براهين على أنك لا تهتم بقضيتي.
فيرهان: كان بإمكاني أن أسكتك الآن، فليس من اختصاص وظيفتي أن أستمع إلى المزيد من الكلام، ومع ذلك تحدث.. هيا أثبت ذلك.
كروجر: حضرت إليك السيدة فولف، فقد وجدت ابنتها شيئًا، ورغم أنها فقيرة إلا أنها لم تبال وحضرت.. ورفضت أن تسمعها مرة، وحضرت اليوم مرة ثانية.
وتكون السيدة فولف قد لاحظت، من بعض القرائن، أن قضية معطف الفراء قد تكشف، وأن بعض الدلائل قد تشير إليها، فأحبت أن تموه الأمر، وتخفي عنها الشبهات، وأن تظهر أمام الحاكم وأمام كروجر، بمظهر النبل والشرف.
فسرقت من بيت كروجر سترة، وربطتها بطريقة لا يُعرَف ما تحتويه الربطة، وذهبت إلى الحاكم. وأشاعت في المنطقة أنها وجدت ربطة، لا تعرف ما بداخلها، وأنها أرسلتها للحاكم. فهي تريد أن تُظهر، أنها على الرغم من فقرها وعوزها، لا تخفي حتى ما تجده في الطريق، فكيف يمكن إذن أن تدور حولها الشبهات وتُتَّهم بالسرقة؟!
ويحاول الحاكم أن ينظر في قضية كروجر وسرقة معطف الفراء، فيُبْطِلُ لكروجر وفلايشر حجة أن فلايشر رأى أحد أصحاب المراكب يرتدي معطفًا من الفراء، فكل المراكبية يرتدون هذا النوع من المعاطف، ويشهد على ذلك رجل بسيط، حضر لقضية له عند الحاكم هو فولكوف نفسه، فيقول: "إنني رغم بساطة حالي، أقتني معطفًا. فظروف العمل تستدعي ذلك"، وتؤكد هذا السيدة فولف، وحاشية الحاكم، وتُردّ إثباتات ومعلومات كل من فلايشر وكروجر إليهما، على أنها غير مقبولة. ويبدأ الجميع بطلب العون من السيدة فولف في أن تساعدهم على معرفة هؤلاء اللصوص، فهي غسالة ولا بد أن تسمع شيئًا بحكم عملها. وتبدو هي بمظهر الأخلاقي المتزمت، الذي يستنكر بشدة كل هذه الأعمال، وأنها تعتبر أن السرقة من أخس الأعمال التي تُرتكب. وهكذا يختفي حق كروجر، وتستمر السرقات، ويمرح اللصوص، ولا تُكتشف السيدة فولف بوصفها سارقة، بل تكتسي حلة الشرف، وتكتسب ثقة الحاكم والسيد كروجر أيضًا، الذي يطرد غسالته ويرجوها هي أن تعود إلى العمل عنده كغسالة.
إن هاوبتمان في هذه المسرحية يرينا أن النفس الشريرة يمكن أن تغطي عيوبها، وأن تُمَوهَها حتى النهاية. وأنّ المجتمع الفاسد يحمي أفراده، ويغطي سوءات بعضهم، ومن ثمَّ يضيع فيه الحق، وتجرح كرامة الأخلاقيين، وتنتهك كل حرماتهم وحقوقهم.
إن مسرحية معطف الفراء مسرحية جيدة محكمة البناء، وتتمتع بروح نقدي ساخر، يتبدَّى من خلال حوار رشيق، معبّرٍ عن الشخصيات وسلوكها ونفسياتها. وفي هذا النص يبين هاوبتمان وجهة نظره القائلة: بأنه من الممكن أن يخفي بعض المجرمين أنفسهم، لا سيما إذا مات في أنفسهم الحس الخلقي والضمير، وإذا فسد المجتمع من حولهم. ولكنه لا يظهر حكمًا أخلاقيًّا مباشرًا على الأفعال والشخصيات، ولا ينتصر للخير على الشر بفعل أو حكم مباشر. ولا يمكننا أن نحاسب هاوبتمان على النهاية السلبية التي أرادها لمسرحيته، أي على انتصار الشر وعدم الانتصار للخير، ولا أن نطالبه بذلك، كما هي حال المثاليين وسياقات أفكار كثير من الكتاب في أعمالهم التي تظهر أو تجسد حكمًا أخلاقيًّا مثاليًّا أو أقرب لما ينبغي أن يكون عليه الأمر في الأدب والفن .. فهو ينطلق من نظرة كان عليها في مرحلة من مراحل تفكيره وإنتاجه، ومن رغبة في تصوير واقع وترك الحكم عليه للناس، ومن معايشة لفئات أو طبقات من الناس كان قريبًا منهم، أو مخالطًا لهم في حياته، قبل أن يتحول عن المذهب الطبيعي، الذي أخذ به في مرحلة من إنتاجه، وحسب نظرة قيل إنها "تعتمد على العلم"، سادت في القرن التاسع عشر، واعتبرها كثير من الكتاب والمؤلفين، نظرة مرتبطة "بواقع العالم؟!"، وأقرب إلى الواقع والحقيقة منها إلى المثالية. وهي نظرة لخصها أتباع المذهب الطبيعي naturalisme ممن مضوا شوطًا بعيدًا في الواقعية أو المذهب الواقعي realisme فقالوا، بعد تأسيس الفيلسوف البريطاني توماس هوبز لما بنيت عليه الواقعية الغربية أو "الليبرالية"، بقوله: إن الشر أساسي في تكوين الإنسان، والخير طارئ بفعل التربية والدين والمجتمع والقانون و.. و.. إلخ، وبأن: "الإنسان للإنسان ذئبٌ ضار"، وقوله: "إن الحق الطبيعي، أو العدل الطبيعي naturel justice معناه: حرية كل واحد في العمل بكامل قوته، وكما يحلو له، من أجل الحفاظ على طبيعته الخاصة، وبعبارة أخرى على حياته الخاصة، وبالتالي القيام بكل ما يبدو له، حسب تقديره الخاص وعقله الخاص، أنه أنسب وسيلة لتحقيق هذا الغرض". وهذا يصب في نظرته القائلة بـ"التفسير الحر للقانون الذي يمنح الناس حرية فعل ما لم ينص القانون على تجريمه صراحةً".. وقد ذهب الطبيعيون إلى حد القول بعدم التجريم وبعدم المسؤولية، ذلك لأن الخير والشر، بنظرهم، هما إفراز داخلي، ذاتي، في النفس البشرية، أو هما نتيجة تفاعل عوامل ومكونات فيها، يشبه التفاعل في المعادلات الكيمياوية. فحين نضع في طرف معادلة ما بعض المواد فإننا تستنتج، علميًّا، ما سينتج في الطرف الثاني من المعادلة. وهذا المبدأ أو المذهب، الذي جاء نتيجة إيغال في الواقعية ومجاوزتها إلى الطبيعية، والنفوذ منها إلى المذهب الطبيعي، الذي كان من أتباعه أو المبشرين به الفرنسي إيميل زولا، يؤدي في نهاية الاستنتاج إلى عدم تحميل البشر مسؤولية أخلاقية عن أفعالهم، لأن واقع المجتمع: "الفقر، الظلم، السرقة، الاحتيال، الانحلال، الفساد، الخداع، والتواطؤ، و.. إلخ، عوامل مؤثرة في النفس البشرية التي تنطوي على شيء طبائعي من الشر، ومن ثم لا يمكن أن يتحمل الشخص مسؤولية عما "فُطِرَ عليه؟!"، وما نمته البيئة والحاجة والأحوال الاجتماعية القائمة والسائدة؟! وهذا المبدأ، يلغي الإرادة والمسؤولية الأخلاقية من جهة، ويبرئ، أو يكاد يبرئ، مرتكبَ الأخطاء والخطايا والجرائم من المسؤولية، أمام نفسه وأمام المجتمع والقانون. وهو يصب في نهاية المطاف في مجرى تسويغ كل ما يبيح كل ممارسة يتملص صاحبها من المسؤولية، أو يُساعد على ذلك.. ويحمي الفساد والإفساد والانحلال، ويضعف الأخلاق، والقيم، وما جاءت به الأديان. فهنا يلتقي القائلون بـ"الغاية تبرر الوسيلة"، بذريعة أن المجتمع فاسد، وللنفس حاجات وهي أمارة بالسوء، ولا يتحمل الفرد مسؤولية التكوين الطبيعي الذي يأتي نتيجة عوامل كثيرة منها الوراثة والتربية والبيئة و.. إلخ، ولا يتحمل مسؤولية فساد المجتمع والسياسة وغيرهما.. بل وقد يرى نفسه ضحية؟!
وتبقى رؤية هاوبتمان، وأحكامه الضمنية على الأفعال والأشخاص، في مسرحيته الجيدة"معطف الفراء"، مما يستحق الاهتمام.